الشيوعي الهارب من الجحيم العراقي إلى «جمهورية الفاكهاني»، التقى فيلليني وودي ألن وفاسبندر وكيوبريك في بيروت أواخر السبعينيات. كان يعتقد أن مستقبله سيكون مع التصوير، فإذا به يصبح مبرمجاً سينمائياً... وقد شغله الفنّ السابع عن كل شيء

سعد هادي
حين ولد انتشال التميمي عام 1954، كان هناك انشقاق في الحزب الشيوعي العراقي، وقد أصدرت الكتلة التي قامت بالانشقاق بياناً حمل عنوان «الانتشال»، دعت فيه إلى إنقاذ الحزب من الأخطاء... هكذا، سارع والده الذي كان من الكتلة المنشقة إلى تسميته بهذا الاسم تخليداً لما حدث. أمّا انتشال، فيرى أنّ الاسم غريب، وهو دائماً ما يجري سؤاله عن مصدره. كما أنّ الاسم يقع بين حدين: إما أن يُنسى بسرعة أو يجري تذكّره بسرعة، ما يسبب طرائف أو مشاكل لا تنتهي!
انتشال الذي بدأ العمل في الصحافة في وقت مبكر، يعيد تكوينه الأساسي إلى العمل الحزبي الذي سبق ذلك، فبسبب هجمة أمنيّة شملت معظم مسؤولي العمل الطلابي من الشيوعيين عام 1971 وجد نفسه وهو في الصف الرابع الإعدادي مسؤولاً عن التنظيم في مدرسته. وبعد أربعة أشهر، أصبح قيادياً مسؤولاً عن عدد من المدارس، بالطبع أضاف له ذلك الكثير من المهارات، لكنّه أخذ منه تفوقه الدراسي، إذ إنّه لم يتخطَّ المرحلة الثانوية إلا بعد ثلاث سنوات. في «طريق الشعب» جريدة الحزب الشيوعي، عمل في قسم التصميم وأصبح على تماس مباشر مع أبرز الصحافيين والمثقفين والأدباء: سعدي يوسف، فالح عبد الجبار، صادق الصائغ، فاطمة المحسن، رشدي العامل، زهير الجزائري. هناك، تعلّم الكثير من الأشياء إلى جانب التعرف إلى أسرار التصميم ودقائقه. وفي تلك الفترة، بدأ يلاحق العروض المسرحية والسينمائية، وكان عليه أن يشاهد فيلماً مثل Z لغوستا غافراس لعشر مرات، ليس لأنّه يريد التعرف إلى خصائصه الفنية بل لأنّه كان مجبراً على اصطحاب عدد من أنصار الحزب للترويج لهذا النمط من الأفلام.
بعد سنوات مريرة قضاها في الخدمة العسكرية، هرب إلى بيروت ليعيش في «جمهورية الفاكهاني» ويعمل أيضاً في صحف المقاومة الفلسطينية. هناك تعرّف إلى مجموعة أخرى من المثقفين الهاربين من الجحيم العراقي، كما توثّقت علاقته بمثقفين من لبنان: إميل منعم وخالد الهبر وحسين ماضي. وخلال سنة ونصف سنة قضاها في بيروت، كان يذهب يومياً إلى السينما.
في «سينما كليمنصو» في الحمرا، شاهد أجمل أفلام فيلليني وودي ألن وفاسبندر وكيوبريك. وقبل أسابيع من سفره إلى موسكو لدراسة الصحافة عام 1979، أهداه زميلنا إميل منعم (المدير الفنّي لـ «الأخبار» حالياً)، كما يتذكّر، كتاباً بعنوان The best of Life يضمّ أفضل ما نشر من صور في أهمّ مجلة أسبوعية أميركية. هذا الكتاب جعله يعتقد بأنّ مستقبله سيكون مع التصوير، وقد التقط لسنوات الكثير من الصور لأشهر الشخصيّات الثقافية العربية: الجواهري، سعد الله ونوس، صنع الله إبراهيم، الماغوط، محمد شكري، غائب طعمة فرمان. حتى إنّ صوره لفرمان تعد الصور الوحيدة الاحترافية التي التقطت لهذا الأديب. وقد أقام انتشال معارض فوتوغرافية عديدة في برلين وبروكسيل ودمشق والقاهرة، لكنّه لم يعد حالياً متفرغاً للتصوير: لقد شغلته السينما ومهرجاناتها وعروضها عن كل شيء.
كان المهرجان السينمائي الأول الذي حضره هو «كارلوفيفاري» في تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1981، وقد عاد ليحضر المهرجان هذا العام عضواً في لجنته التحكيمية للأفلام الآسيوية. في مهرجانات سينمائية أخرى، أصبح انتشال عضواً أيضاً في اللجان التحكيمية: «كيرالا» في الهند 2005، «الإسماعيلية للأفلام الوثائقية» 2005، «برلين» 2006، «لوكارنو» السويسري 2007 وهو يسافر أكثر من 25 مرة في العام إلى الجهات الأربع ليحضر المهرجانات أو الاجتماعات والندوات المتعلقة بالسينما. وهو يرى أنّ المهرجانات مراكز ضرورية لعقد الصفقات، وللترويج الصناعة السينمائية، مثلما هي ضرورية للتعرف إلى أبرز الاتجاهات والرؤى الخاصة بمبتكري الأفلام. لكل مهرجان أهميته: «مهرجان روتردام» عرَّف بالسينما الكورية، «البندقيّة/ فينيسيا» اكتشف السينما الإيرانية...
هكذا، اختار بعد خبرة طويلة في المهرجانات أن يكون مبرمجاً سينمائياً، هذه المهنة الشائعة في الغرب شبه مجهولة عربياً، أكثر وقته يخصّصه لـ «مهرجان روتردام للسينما العربية» الذي كان من مؤسسيه عام 2001، كما يعمل مستشاراً لـ «مهرجان روتردام الدولي» ومبرمجاً في «مهرجان أوشيان سينافان» في دلهي و«أبو ظبي» في الإمارات، وله برامج عرض في مهرجاني «سنغافورة» و«ألوان» في نيويورك. يقول عن مهرجان «روتردام» إنّه أصبح أشبه بكتالوغ للسينما العربية في كل عام، لم يقتصر على عرض الأفلام الجديدة الروائية والوثائقية فقط، بل استوعب أهمّ الأفلام المنتجة خلال العشرين سنة الماضية، من خلال تظاهراته المختلفة، وأصبح جسراً لهذه الأفلام إلى المهرجانات العالمية خارج هيمنة البيروقراطية التي تتحكم في الدوائر السينمائية في البلدان العربية. «بدأت فكرة المهرجان عام 2001 مع اختيار روتردام عاصمة للثقافة الأوروبية، وكانت هناك فرصة لتمويل نشاطات عدة، وقدّم زميلي خالد شوكت اقتراحاً جرى قبوله لإقامة مهرجان للفيلم العربي، وكان متوقعاً أن يقام المهرجان لمرة واحدة لكنّ نجاحه حرّضنا على إقامته مرة أخرى».
بدا المهرجان في السنة التالية كبيراً بلجنة تحكيم يرأسها التشيلي ميغيل ليتين وببرنامج أصيل وحضور جماهيري مكثف، وقد استمر منذ ذلك الحين بمختلف فعالياته المهرجان الوحيد المخصص للسينما العربية. يأسف انتشال لأنّ كثيرين ينظرون بنوستالجيا إلى السينما العربية القديمة ويعدونها الأفضل، فيما «هناك أفلام عربية في كل عام تلفت النظر فكرياً وتقنياً». هناك كما يقول قفزات خارج السياق ومبادرات فردية ومحاولات لصنع أفلام تتخطّى المألوف رغم خضوعها لشروط إنتاجية تعجيزية، من ذلك مثلاً فيلم «خلطة فوزية» الذي أخرجه مجدي أحمد علي، وعرض أخيراً في مهرجان دمشق وسيعرض في مهرجان «القاهرة» الذي بدأ اليوم. «هذا الفيلم وازن بين القيم الفنية والجماهيرية، وقدّم شخصية لا تُنسى أدتها باقتدار الهام شاهين، مثلما لخّص مشكلة اجتماعية مزمنة في مصر، هي مشكلة العشوائيات».


5 تواريخ

1954
الولادة في بغداد

1986
تخرّج في كلية الصحافة ــــ جامعة موسكو (الاتحاد السوفياتي حينذاك)

2001
أسّس مع خالد شوكات ومحمد أبو الليل «مهرجان الفيلم العربي» في روتردام (هولندا)

2003
عاد إلى العراق بعد ربع قرن من الترحال.

2008
شارك في إقامة برنامج «طريق الحرير الساخن» الذي يعرض أفلاماً من العراق وأفغانستان في مدينة تالين الاستونية