strong>ناهض حتر *لا أريد أن أفتح سجالاً بشأن أيديولوجية السوريين القوميين، فمشروع رابطة دول الهلال الخصيب، المقتَرح هنا، ليس مشروعاً أيديولوجياً. إنه مشروع مطروح للتطبيق الفعلي في المدى المنظور. ونحن نعرف، بالطبع، أن هنالك ثلاث مشاكل صعبة تحدّ من واقعية المشروع ذاك: 1ـ لبنان المهووس بـ«استقلاله»، 2ــ العراق المحتل، بمشروعه الشيعي المدعوم إيرانياً، 3ــ فلسطين المغتصبة، والمتشظية. غير أن الرابطة تلك يمكن أن تنشأ فوراً بين بلدين يتقاربان جدياً في سياق احتياجاتهما المتبادلة: سوريا والأردن، حيث المشاعر القومية لا تزال سليمة في المجتمعين، والدولتان قويتان بما يكفي للثقة بالذات، والمصالح والبنى الاقتصادية متقاربة ومشتركة، بينما تنظر عمان إلى دمشق كحليف لا غنى عنه في مواجهة تفاهم إسرائيلي ـ سلطوي فلسطيني مدعوم أميركياً حول الوطن البديل. وفي المقابل، يرحب السوريون بحليف في حجم الأردن.
يقترب البلدان من تسوية تاريخية ودية تماماً لمشكلتي ترسيم الحدود والمياه بينهما، وتتكثف اللقاءات بين المسؤولين الأردنيين والسوريين. وخلافاً للسعودية ومصر، أعلن الأردن في بيان رسمي صادر عن مجلس النواب، إدانته الصريحة «للعدوان الأميركي على الأراضي السورية (في البوكمال، تشرين الأول الماضي) بينما كان رئيسا الديوان الملكي ودائرة المخابرات في زيارة عاجلة إلى دمشق. وهي مجرد إشارة من إشارات عديدة على غير مستوى للتفاهم الثنائي:1ــ فعمان انسحبت من الشأن اللبناني، وهي تخفض علاقاتها مع قوى 14 آذار وتسعى، ضمناً وعلانية، لاتخاذ موقف متوازن مفتوح الخطوط مع جميع الأطراف اللبنانية، 2ــ وفي الساحة الفلسطينية، تراجعت علاقات الأردن «بالسلطة» لحساب علاقة تحالفية مع «حماس»، 3ــ وترفض الدبلوماسية الأردنية، صراحة، الحل العسكري للملف النووي الإيراني، ولم تعد تصدر عن عمان أية إشارات عدائية نحو طهران، 4ــ وعلى المستوى الشعبي، رأى المراقبون في الترخيص (المرفوض سابقاً مرتين) لجمعية ذات غايات موسعة، أسسها يساريون وسوريون قوميون وشخصيات وطنية وعشائرية، باسم « الإخاء الأردني ـ السوري»، مؤشراً آخر على النوايا الإيجابية للحكومة الأردنية الحالية إزاء العلاقات الثنائية.
لدينا إذن مناخ ممتاز للعودة إلى أجواء 1973 ـ 1979، عندما سعى الراحلان حافظ الأسد والملك حسين إلى نوع خاص من التنسيق في كل المجالات، بما فيها التصدي لاتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل. ولا يزال الأردنيون يتذكرون الحدود المفتوحة الموحدة والسفر بالهوية الشخصية بالاتجاهين.
وبغض النظر عن تفاصيل الخلاف ـ والصراع ـ اللاحقين بين 1980 و1985، بما في ذلك العمليات الأمنية المتبادلة، فقد كان جوهر الانقسام اللاحق بين زعيمين أرادا بالفعل تكاملاً ثنائياً، هو نجاح الثورة الخمينية في إيران. ولا يمكن تبسيط تفسير ذلك الانقسام بمجرد القول إنّ عمان تبعت سياسات حليفها الأميركي نحو إيران الثورية. فإذا كان ذلك التحالف، بالنسبة إلى الملك حسين، عامل قوة لا يمكن التفريط به، فعلينا أن نتذكر أنه وقف إذاك، رغم الضغوط الأميركية، ضد «كامب ديفيد». لكنه وجد في الثورة الخمينية تهديداً من نمو حركة إسلامية محلية ثورية، وفي انتصار التشيع الإيراني خطراً على المدى السني العربي. وقد تلاشى التهديد الأول بقدرة التحالف السعودي ــ الأميركي على توجيه الجيل الغاضب من الإسلاميين للقتال في أفغانستان ضد الشيوعية، بينما كان تأييد العراق في حربه ضد إيران، خياراً ملائماً للملك حسين ـ مدعوماً بالرأي العام المحلي ـ لصد الخطر الإيراني والتحالف الوثيق والتكامل الاقتصادي والسياسي مع بغداد، من دون تحدي واشنطن.
الأردن الذي ارتكزت سياساته مطولاً على الاحتماء بإحدى الدولتين الكبيرتين في الهلال الخصيب، لم يقف دائماً مكتوف الأيدي حيال خلافاتهما. ففي عام 1985 وحتى عام 1989، سعى الملك حسين إلى عقد مصالحة بين دمشق وبغداد، كان يرى فيها تعزيزاً استراتيجياً للدولة الأردنية ومصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والصلف الخليجي والتحدي «الفلسطينوي» الذي حظي، دائماً، بالدعم المصري.
الآن يتجلى المناخ نفسه والمخاطر نفسها، ولكن في ظروف قد تساعد على تحقيق تعاون ثنائي (أردني ـ سوري) يقود إلى تعاون ثلاثي مع العراق. 1ــ فقدرة الولايات المتحدة على ممارسة الضغوط والتهديدات هي أضعف مما كانت عليه في أي وقت سابق، وخصوصاً وهي تستعد، في مدى منظور، للانسحاب من العراق والتفاهم مع سوريا وإيران، 2ــ وللأردن وسوريا مصلحة مشتركة في الحد من النفوذ الإيراني في عراق ما بعد الاحتلال، ما يجعل تحركهما الثنائي في هذا البلد ضرورة تفرض تنسيق مبادرات مشتركة، والسعي إلى جذب العراقيين إلى تعاون ثلاثي، 3ــ ولن يكون هذا التعاون، بالضرورة، معادياً لإيران التي تمثل قوة إقليمية صاعدة وحليفاً لا غنى عنه في مواجهة التهديد الإسرائيلي، ولكنه سيكون محاولة لترجيح وزن عربي مقابل للنفوذ الإيراني، سيلقى ترحيباً من أية حكومة عراقية تسعى إلى الاستقلال، 4ــ وفي هذا السياق، فإن السياسة السورية الحالية الذكية في الانفتاح على تركيا الديموقراطية الساعية للتحديث، وتعزيز العلاقات معها، يمكن أن تكون سياسة جماعية لدول الهلال الخصيب لإحداث توازن ليس فقط مع ملالي إيران، ولكن أيضاً مع الوهابية السعودية، 5ــ وإذا كانت قدرة حزب الله على التصدي للعدوان الإسرائيلي عام 2006 قد حفّزت وعياً استراتيجياً للخروج من حالة الذعر من التهديد العسكري الإسرائيلي بالنسبة إلى دمشق، كما بالنسبة إلى عمان، فإن حزب الله ـ وحماس ـ سيجدان لهما مقعدين في تحالفات الهلال الخصيب السياسية. والأمر بالنسبة إلى مصلحة سوريا واضح، لكن الأردن الخائف على كيانه من حل القضية الفلسطينية على حسابه، ليس له بديل عن الاندراج في تلك التحالفات المعقدة التي لا يتوقع، على كل حال، أن تصطدم بعنف مع سياسة أميركية تسعى لإعادة تركيب حضورها في المنطقة على أساس تفاهمات مع الخصوم، 6ــ وأخيراً، فإن أفول الدور السعودي في ظل تطورات دولية وإقليمية مضادة، سوف يشل التدخل التقليدي السلبي للسعودية في الهلال الخصيب، كما أن فوات الدولة المصرية شبه المنهارة، وتراجع دورها الإقليمي، سوف يحرمان الأيديولوجية المصرية المعادية لوحدة الهلال الخصيب أدوات التدخل المضاد.
لبنان، بأيديولوجيته الانفصالية المهيمنة، سوف يُترَك الآن لسجالاته المحلية الصغيرة، لكنه سيأتي لاحقاً إلى رابطة الهلال، مجلوباً بمصالحه ربما حتى من دون تغيير أيديولوجيته. ومن المتصوَّر بطبيعة الحال أن نجاح الثلاثي السوري ـ الأردني ـ العراقي في إقامة رابطة إقليمية للتكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي والأمني، سوف يغير مشهد الصراع في فلسطين، ويفتح الباب أمام نهوض جديد للحركة الوطنية الفلسطينية.
من المفارقات أن العقل القومي العربي يتغنى، حتى الآن، بالوحدة المصرية ـ السورية الفاشلة التي كانت تكراراً لسيطرة مصرية على سوريا، محمولة ـ ولكن بلغة قوموية ـ من عهد محمد علي، بينما يتنكر للوحدة الأردنية ـ الفلسطينية ـ الاندماجية والحيوية والتقدمية ـ المستمرة منذ 1950 وحتى عام 1967 حين سقطت، ليس بفعل عامل داخلي ـ ولكن بالعدوان الإسرائيلي، ومن ثم، سياسياً بفعل تدخل عامل فلسطيني من خارج البنية الاتحادية، أعني «فتح» الخليجية ـ المصرية.
كما أن سنوات التكامل بين سوريا والأردن (المنتهية بفعل عوامل إقليمية ودولية لا ذاتية) وبين الأردن والعراق (المنتهية بفعل الغزو الأميركي)، لهي التجارب الأنجح من بين كل التجارب العربية التي استندت إلى الأيديولوجية القوموية. والسبب في ذلك وجود مساحات ثقافية واقتصادية وسياسية مشتركة بين هذه البلدان ليست موجودة بينها وبين سواها.
لقد كانت الضفة الغربية في المملكة المتحدة تحظى، بخلاف سوريا في الجمهورية المتحدة، بالشراكة الكاملة في البرلمان والحكومة والجيش والأجهزة الأمنية والقرار والحقوق والواجبات. كذلك، فإن قوة الدولة الأردنية وتماسكها وأيديولوجيتها العروبية وثقتها بنفسها ـ بخلاف لبنان الممزق ـ حالت دون تبعيتها لسوريا أو العراق في فترات التكامل والتنسيق في السبعينيات والثمانينيات. وسيكون على اللبنانيين أنفسهم أن يقوموا ـ بدلاً من السعي الذاتي الدؤوب للانتحار الوطني ـ بتأسيس دولة متحدة متماسكة، ليس بالتعارض مع دول الهلال الخصيب ومكوناته، ولكن على أساس الاندماج فيه من موقع قوي. وبينما تتطور رؤية اتحادية لدى فريق المقاومة الفلسطيني، فإن الأفرقاء اللبنانيين لا يزالون غارقين في لعبة محلية تأخذهم إلى انشقاقات تتوسل تحالفات خارجية متقلبة. ينطبق ذلك على قوى 14 آذار الراكضة وراء تحالف أميركي ـ سعودي أصبح من الماضي، مثلما ينطبق على حزب الله العاجز عن الخروج من المربع الأمني الإيراني، والتيار الوطني الحر المكتفي بالمعركة داخل مسيحيي لبنان، عاجزاً حتى عن تلمس دوره الممكن في صفوف المسيحية العربية.
* كاتب وصحافي أردني