صباح علي الشاهر *عندما كتبتُ أنّ العراق سيخسر مئات التريليونات من الدولارات لحساب شركات النفط الاحتكارية الأجنبية فيما لو جرى نهب ثروته على طريقة الاتفاق مع شركة «شل»، حسب البعض أنني أخطأت في الرقم، فتطوع لإبدال مئات التريليونات بعشرات التريليونات، أو بذكر التريليونات دونما رقم أمامها، أو حسب أنني غير مدرك لجسامة الرقم، فأزال الجملة الأخيرة من المقال، ووضع جملة عامة تقول «والخاسر في عملية النهب هذه هو العراق» ختمت بها جريدة «الأخبار» البيروتية الغراء مقالي المنشور في عددها الصادر في 31 تشرين أول 2008، بعدما حذفت الرقم.
كنت أعرف أن الرقم صادم. لقد صدمت به أنا قبل غيري، أنا العراقي الذي لم يفق بعد من سياسة الصدمة والترويع، وقبل أن أدونه أعدت الحسابات مرّة وثلاثاً فهالني أن الرقم الحقيقي أكثر بكثير من هذا، فهو يقفز خانه كامله ليصبح آلافاً.
كانت حساباتي بسيطة جداً، وواضحة جداً، وجامدة جداً. لقد تجاوزت احتمالات ارتفاع المخزون الاحتياطي لغاز العراق خلال المئة سنة القادمة إلى المئتين، واعتمدت الاحتياطي المكتشف فعلاً، وهو 112 تريليون برميل مكعب. حكمت على بطن أرض الرافدين بالعقم بعد وليدها المذكور. ليس هذا فحسب بل أوقفت عقارب الساعة، وأبطلت مسلّمة ارتفاع الأسعار التصاعدي، وتوقفت عند السعر وقت كتابة المقال وهو 50 دولاراً للمتر المكعب الواحد، وبعد وضع كل هذه الأمور بالحسبان يكون وارد بيع الغاز فقط هو 5600 تريليون دولار عندما ينضب آخر متر مكعب من الغاز العراقي الثابت الوجود، بعد مئة سنة أو يزيد، وما يُقال عن كلفة إنتاج النفط العراقي يُقال مثله بالنسبة إلى كلفة إنتاج الغاز، إذ من المعروف أن كلفة إنتاج الغاز في باطن الأرض زهيدة قياساً إلى كلفة إنتاج الغاز المصاحب للبترول مثلاً، وكلفة إنتاج البترول ذاته، ولو افترضنا أن كلفة الإنتاج والتسويق تعادل عُشر الأرباح، وهو رقم لا يستطيع أحد أن يعده متواضعاً، فإن الربح الصافي سيكون 5100 تريليون دولار. وحيث إن الشركات ستأخذ 49% من الأرباح، فإنها ستحوز أكثر من ألفين وخمسمئة تريليون دولار، وليس مئات التريليونات كما ذكرت في مقالي السابق.
أرقام الأمس ليست أرقام اليوم، وأرقام اليوم ليست أرقام الغد، رغم أن الرقم يظل رقماً في مطلق الأحوال.
في الثلث الأول من القرن المنصرم، كان فاحش الغنى هو من يملك الآلاف. نقول إنّ فلان ألّف أي جمع ألوفاً. ظل الوضع هكذا حتى أواسط الثلاثينات. لم يكن هذا هو الشأن بالنسبة إلى البلدان العربية فقط بل إنّ الأمر يشمل العالم كله.
في القرن التاسع عشر، باع قيصر الروس الاسكا كلها ببضعة الآف من الجنيهات الذهبية، وباع ورثة كنزبري مزرعته في وسط لندن بملايين أمتارها، وقصورها وكامل منشآتها ببضعة الآف من الجنيهات، وهكذا بالنسبة إلى كل الضيع التي أصبحت باركات لندن المشهورة الآن. فيما بعد، أخذت الشركات تحسب كم مليون برميل تنتج من هذا الحقل أو ذاك، ولم يكن سعر البرميل ليتجاوز بضعة سنتات. إلا أن الاقتصاد الرأسمالي الذي كان بخيلاً في عد النقود كان كريماً في قتل الناس، إذ شهدت الحرب العالمية الثانية مقتل ما يقارب خمسين مليون ضحية. لقد عرفنا الأرقام المليونية من خلال عدد ضحايا الهمجية، ومن ثم تعرفنا إلى هذه الأرقام من خلال موجودات البنوك التي كانت تزدهر على شكل طفرات، وفي نهاية الأربعينات أخذنا نعرف عن أولئك الأشخاص الذين كانوا يملكون الملايين، ولأمر ما عدَّ أغلب هؤلاء أغنياء حرب! وطفقت كلمة مليونير تتردّد على الأفواه، وفي نهاية الخمسينات عرفنا الـ«ملتي ــ مليونير»، ومن ثم الملياردير، وهي مفردة عمرها بضعة عقود ليس إلا. والآن، هناك من يملكون خمسين ملياراً أو أكثر، أي إننا نعيش عصر الـ«ملتي ــ ملياردير»، ولعلنا بعد عقد أو عقدين سنعيش مرحلة التريليونير. فقد انتقل المليونير إلى الملتي مليونير خلال عقدين من الزمان، وتحول الملتي مليونير إلى ملياردير خلال أقل من عقدين، وتحول الملياردير إلى ملتي ملياردير خلال عقد من الزمن، فكم سنحتاج من الزمن ليتحول الملتي ملياردير إلى تريليونير؟
إلى ما قبل احتلال العراق، كنّا نتحدّث عن المليارات التي تنفقها أميركا على جيوشها وأساطيلها وحروبها. لم نكن نتحدث عن التريليون، لكن الأزمة الاقتصادية الحالية جعلتنا نتحدث عن الخسائر التريليونية، ولا أشك أننا سنتحدث بعد وقت قصير عن عشرات التريليونات.
نعم في باطن الأرض العراقية من الغاز ما قيمته آلاف التريليونات. هذا باستثناء النفط والكبريت والفوسفات، وكل هذه ثروة يسيل لها لعاب الرأسماليين.
ثروتنا لنا، نبني بها عراقنا العليل المثخن بالجراح. نفتح باب التعاون مع الجميع، ولكن من دون أن يشاركنا أحد لا في الإنتاج ولا في الأرباح، فناتج أرضنا لنا وخيرات بلادنا ملكنا. نعم للتعاون وشراء الخبرة، والمساعدة على تطوير الإنتاج وتحسينه، ولا لتقاسم الأرباح.
إلى متى يظل العراق جائعاً والثراء تحت قدميه؟ كالعير في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول.
* كاتب عراقي