أثار قرار وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي بخفض أجرة السرفيس من ألفي ليرة إلى 1750 ليرة تبعاً لانخفاض سعر المحروقات، أخذاً ورداً بين السائقين العموميين وركابهم عن جدوى الالتزام به، نظراً لتدني الفارق بين التسعيرتين. ما أثار بالأغلب سخرية المتناقشين من قرار عدّوه كمعظم القرارات الرسمية، مجرد حبر على ورق
أحمد محسن
كان صوت فيروز ينساب في سيارة الأجرة بأغنية قديمة. فوق المسجل، لافتة مكتوبة بخط اليد ترجو الركاب عدم التدخين. الجو هادئ في السيارة. لا شيء يوحي بتعكير مزاج سائقها إلا الإشارة الحمراء عند تقاطع فردان ـــ ساقية الجنزير. يعبس السائق عندما تمتد يد الراكب إليه ببعض العملة المعدنية. «شو هاو؟» يسأل السائق الراكب بصوت مرتفع بدا فيه واضحاً الاستياء. يجيب الراكب «1750 ليرة». يسود جو من الصمت المفتعل، ترافقه تمتمات غير مفهومة للسائق الستيني، قبل أن يتخلى عن حذره ويشكر راكبة أخرى بجانبه منحته ألفي ليرة دون أن تطالب بالباقي. ثم ينظر إلى الراكب الأول قائلاً «ما حدا عم يسأل عنا يا عمي»، ليستفيض بشرح أن «انخفاض البنزين وحده لا يكفي»، لخفض التسعيرة. ثم يلتفت إلى ركابه طالباً منهم أن يسألوا بأنفسهم عن سعر «مجمع الحلاوة» الذي ما زال بـ8000 ليرة، قبل أن يتلو لائحة طويلة من المستلزمات اليومية التي لم تنخفض قط. لكن الراكبة المسالمة تستغل فرصة الحديث عن الأسعار، لتفاجئ السائق بمعادلة حسابية بسيطة: إذ إنها وابنتها، تحتاجان إلى ما يعادل سعر «مجمع الحلاوة» تماماً، إن قررتا الذهاب بالسرفيس لشراء واحد منها والعودة إلى المنزل. كما تحاول إقناعه بأن خفض التعرفة سيؤدي إلى إقبال الناس على استخدام السيارت العمومية لتنقلاتهم، بعد اضطرار جزء كبير منهم إلى استعمال الباص في ضوء تعرفة النقل الحالية «رغم خسارة الوقت» لبطء الباص. يلتزم السائق الصمت من جديد، قبل أن يطلق سلسلة من الشتائم النابية بحق الدولة. اكتب «أبو زفت» يقول للراكب الصحافي. ليضيف: «أنت أول راكب بيسألني عن هال 250 الش..».
الجو نفسه في معظم سيارات الأجرة. ففي سيارة عمومية أخرى متجهة إلى الكولا، بدأ السائق يشرح بالأرقام ما وصفه بأنه «خسائري». 6 آلاف ليرة في أفضل الأحوال هو المبلغ الذي يجنيه محمد جوني من «رحلة بسيطة بين شارع الحمرا وطريق الجديدة»، إلا أنه لا يلبث أن يشرح أن هذا المبلغ لا يبقى منه سوى ألف ليرة فعلياً، وذلك نتيجة 45 دقيقة من زحمة السير، ويردف محمد ساخراً «شيلو العجقة منرجعها بألف». لكن كلفة زحمة السير ليست مادية وحسب بل هي نفسية أيضاً. وللتدليل على نظريته، يشير إلى شارع فردان حيث كنا «شوف: 4 صفوف سيارات، بكل سيارة ما في إلا واحد، شعب ممحون». لا يقف الأمر عند ذلك، يسخر أحد الركاب واسمه جميل عيتاني من التسعيرة الجديدة، وقيمة الخفض، مشيراً إلى أنه «تذاكٍ» على السائقين والمواطنين في آن. ويردف موجهاً حديثه لسائق السرفيس هذه المرة «انو بألف وخمسة ما بتوّفي يا عم؟» فيجيبه «روح اسأل الضمان». ولفهم ما يقصد، كان علينا الاستماع إلى سائق آخر. يفلت عمر هاشم، وهو من عكار، مقود السيارة ليرفع يده بحركة غاضبة ما إن يسمع السؤال: شو قصة الضمان؟ يتحدث بلهجته العكارية المحببة عن اضطراره لدفع مبلغ إلى الضمان يفوق ما كان يقبضه، نتيجة عدم ربط التقديمات الخاصة بالضمان بالحد الأدنى للأجور، التي ارتفعت أخيراً، وارتفاع تكلفة الاشتراكات في الضمان كونها مرتبطة بالحد الأدنى للأجور. ففي حال عودة الضمان كما كان في السابق، فإن ذلك كافٍ برأيه لعودة التعرفة إلى ألف ليرة.
يعرّف أبو علي عن نفسه بأنه «سائق من أيام المانيفيل (اليدوي)». يذكر أن «خمسة قبضايات» مع «معلم» سائقي التاكسي، كانوا قادرين على شل «البلد»، يقصد وسطه القديم الذي كان مركزاً لسرفيسات لبنان. «حتى بأيام الحرب كان الوضع أفضل» يقول. حينها، كان السائقون يعملون، «بينما معظم السائقين اليوم يبيعون لوحاتهم»، حيث إن «المصلحة لم تعد ربّيحة». ويعلن أبو علي الذي يرفض التصريح بأي اسم آخر، أنه «حتى الرئيس السابق أمين الجميّل على مساوئه كان يدعم البنزين»، وكان سعر التنكة أيامه يعادل 6 آلاف ليرة اليوم. أما حالياً فـ«الكل على شوفير التاكسي المعّتر»، بينما «يبقى أصحاب السوبر ماركت والمواد الغذائية أحراراً في نهب الناس».
وفي اتصال مع «الأخبار»، أكد رئيس نقابة اتحاد السائقين العموميين عبد الأمير نجدي، أن مطالبهم تقضي بتحسين اشتراكاتهم في الضمان، فهم ينقسمون إلى قسمين: مالك للوحة، ومستأجر لها، وتعاطيهم مع الضمان مبني على هذا الأساس، حيث يطالب أصحاب اللوحات بمعاملتهم كما يُعامَل مستأجرو لوحاتهم، الذين يدفعون اشتراكات أقل من اشتراكات المالكين. ويضيف نجدي أن المشكلة هي مع مدير الضمان الحالي محمد كركي، وليست مع الضمان بحد ذاته. إلا أن نجدي فاته أن يذكر أن مطالبة نقابة السائقين العموميين برفع تقديمات الضمان الاجتماعي بالتزامن مع رفع الحد الأدنى للأجور تحتاج إلى قرار من مجلس النوّاب، لأن القانون القديم ما زال سارياً. والفرق الوحيد هو ارتفاع الحد الأدنى للأجور، وبالتالي ارتفاع الاشتراكات العامة (ليس فقط على السائقين العمومين)، فيما ينص القانون على بقاء التقديمات على حالها. وكان نجدي قد أشار إلى تقديم النقابة شكوى ضد الضمان لمجلس شورى الدولة، رغم أن الجهة المسؤولة عن تشريع قانون رفع تقديمات الضمان الاجتماعي، مقابل الارتفاع البديهي لاشتراكات السائقين، هي مجلس النواب.
أمام كل هذه المعطيات، يجد السائقون أنفسهم في حالة من الفوضى حيال الالتزام بتسعيرة السرفيس الحالية أو عدم الالتزام بها، وخصوصاً أن جزءاً منهم منهم ما زال يساوم، فحتى عندما كان السرفيس بألفي ليرة، كان السائق يطلب «سرفيسين»، فكيف هي الحال مع 1750؟