معتصم حمادة *حين سُئل «الحمساوي» فوزي برهوم عن أسباب تأجيل مؤتمر الحوار في القاهرة، أجاب بكل ثقة، وبدون أن يرف له جفن، أن القاهرة هي التي أجلت المؤتمر احتجاجاً على رفض الرئيس عباس طلباً تقدمت به القيادة المصرية، طالبته فيه بأن يطلق سراح المعتقلين السياسيين في سجون السلطة في الضفة الغربية. وعلى هذا المنوال، واصل إعلام «حماس» تفسير أسباب تأجيل مؤتمر الحوار. غير أن اليوم التالي حمل، على صفحات صحف القاهرة، حقيقة الموقف المصري، إذ أوضحت ثلاث صحف رئيسية هي «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» أن الحركة الاسلامية هي التي قررت المقاطعة، وهي التي تسببت بتأجيل الحوار، وبضياع فرصة تاريخية كان يمكن الفلسطينيين أن ينطلقوا منها لمعالجة أزماتهم، وإعادة ترتيب بيتهم الداخلي.
إذن، «حماس» هي المسؤولة، شاء فوزي برهوم أم أبى. فلماذا قاطعت المؤتمر، ولماذا تسببت بتأجيله حتى إشعار آخر، وبضياع فرصة تاريخية؟
هي أولاً: تخالف الإرادة الجماعية للقوى الفلسطينية، وتخالف المشروع المصري للحوار المستمد من ردود القوى الفلسطينية على الدعوة المصرية. هي ترفض حواراً وطنياً شاملاً، وتصر على حوار ثنائي بينها وبين «فتح». طالبت بعقد لقاء ثنائي بينها وبين «فتح» في 25/10/2008 لمناقشة مسودة البيان الختامي لمؤتمر الحوار، وألا يعرض على القوى الفلسطينية إلا بعد أن يتفق عليها الطرفان (هي وفتح). كما طالبت بأن تقتصر عضوية اللجان الخمس على ممثليها وممثلي «فتح»، ولا مانع لديها من مشاركة مراقبين وخبراء مصريين وعرب. وبعد أن تنهي الحركتان أعمالهما الثنائية في اللجان الخمس، تدعي الفصائل الأخرى إلى «الحوار الشامل» لا لتناقش، ولا لتحاور، بل لتوافق (تبصم) على ما توصلت إليه الحركتان. أي إن «حماس»، في موقفها هذا، تستخف بمفاهيم الوحدة الوطنية، وتستخف بالقوى الفلسطينية وتصر على اتّباع سياسة الاستئثار، والاستفراد، وفي أفضل الأحوال سياسة المحاصصة والقطبية الثنائية، وإلا، فلا حوار، ولا تفاهم، وليبق الانقسام. وهذا ما حصل. فقد رفضت القاهرة أن تتجاهل موقف 12 فصيلاً فلسطينياً، ومواقف الشخصيات الوطنية المستقلة، وحرصت على أن يكون الحوار شاملاً، فكان موقف «حماس» المعروف: لا حوار حتى إشعار آخر.
هي ثانياً: ترفض حكومة تكنوقراط تخلف حكومة فياض و«حكومة» هنية. كما ترفض حكومة شخصيات وطنية مستقلة. وترفض أن يكون من مهمات الحكومة الجديدة العمل على فك الحصار عن المناطق الفلسطينية. وتصر على حكومة تكون انعكاساً لتمثيل القوى في المجلس التشريعي. أي تريد حكومة برئاستها، وبأغلبية وزارية من «حماس»، وأن تكون الوزارات «الرئيسية» كالداخلية من نصيبها هي وحدها، دون أن توضح كيف ستنجح القوى الفلسطينية في الاتفاق على حكومة «فصائلية» في ظل حالة من الانقسام، وتحت وطأة جسم فلسطيني أثخنته جراح الحرب الأهلية والإعدامات العشوائية وآلة القمع والإرهاب.
في موقفها هذا، أعادت «حماس» التأكيد على أن صراعها لا ينطلق من رؤية سياسية بل من منطلق التمسك بالسلطة. ولا شيء غير ذلك. لذلك رأت في الحوار الشامل، كما تقول في تعميم مكتبها السياسي إلى قواعد الحركة محاولة لانتزاع غزة منها، وإخراجها من الحكومة وإضعافها سياسياً. ورؤيتها للحوار الشامل، تقع بالتضاد الكامل مع رؤية القوى الأخرى.
هي ثالثاً: ضدّ الانتخابات المبكرة الرئاسية والتشريعية، والمتزامنة، والتي اقترح أن تنظم في حزيران القادم. هي مع أن ولاية الرئيس عباس تنتهي في 9/1/2009، وأن تحال صلاحية الرئاسة إلى نائب رئيس المجلس التشريعي، وحتى إشعار آخر. (بذريعة أن الظروف لا تسمح بتنظيم انتخابات رئاسية جديدة خلال ستين يوماً). وهي مع بقاء المجلس التشريعي (المشلول والعاجز) حتى نهاية ولايته القانونية أي 25/1/2010. حتى ولو أدى ذلك إلى تعطيل السلطة التشريعية الفلسطينية، وتعطيل المصالح الوطنية.
وهي ترى في الحوار الشامل، محاولة من عباس كما تقول لتعويم موقفه السياسي، وتمديد ولايته القانونية، وتقصير ولاية المجلس التشريعي. لذلك هي على استعداد للتضحية بالشراكة السياسية والوحدة الوطنية مقابل التمسك بمصالحها الفئوية الضيقة والمحدودة، حتى ولو أدى ذلك إلى إدامة الحصار على القطاع حتى إشعار آخر، وإبقاء الحالة الفلسطينية مشلولة، ومشرعة الأبواب أمام الاستحقاقات السياسية والإقليمية والدولية.
هي رابعاً: ضد التمثيل النسبي في انتخاب المؤسسات التشريعية، والبلدية، والنقابية. هي تدعو لقوانين انتخابات «بما يخدم مصالح الوطن». مصلحة الوطن تقتضي في هذه المرحلة (مرحلة الخلاص من الاحتلال والاستيطان) بناء الوحدة الوطنية الشاملة من القوى الوطنية كلها، وعدم استثناء أي من هذه القوى خارج الوحدة الوطنية. ويمكن الوحدة الوطنية أن تقوم على واحد من الأساسين التاليين: صفقات وفق مبدأ الكوتا، وهو أساس أثبت فشله. أو اللجوء إلى صناديق الاقتراع على مبدأ التمثيل النسبي. وهو ما أكد نجاحه، في العشرات من دول العالم. جميع القوى الفلسطينية، ترى في التمثيل النسبي تطويراً للنظام الفلسطيني وتطويراً للعلاقات الوطنية الفلسطينية، ما عدا «حماس»، التي ترفض هذا المبدأ، وتدعو لمبدأ بديل هو «ما يخدم مصالح الوطن». يبقى السؤال أين تكمن مصالح الوطن؟ أفي الوحدة الوطنية، وحدة الشعب وقواه السياسية، أم في نظام الاستئثار والتفرد، والانقسام؟
هي خامساً: ضد أن يتطرق الحوار إلى قضيتين، هما قضية التهدئة مع إسرائيل، والمفاوضات الجارية معها. بذريعة أن هاتين القضيتين ليستا بين الفصائل بل بين الحالة الفلسطينية من جهة، وبين إسرائيل من جهة أخرى. غير أن قليلاً من التأمل يوضح لنا أن هاتين القضيتين هما القضيتان البرنامجيتان سياسياً، من بين مجموع القضايا المثارة أعلاه. وهما القضيتان الوحيدتان اللتان لا تتطرقان إلى «المكاسب السلطوية»، بل تطرحان مسألتين غاية في الأهمية: الموقف من الاحتلال، وبرنامج المواجهة. ولأن «حماس» تريد أن تستأثر وحدها بقرار التهدئة ولا تريد للأطراف الفلسطينية أن تكون شريكاً لها في القرار، فإنها ضدّ أن تطرح التهدئة على بساط البحث. «حماس» تدّعي أنها ترفض بحث التهدئة إلى طاولة الحوار حتى لا تصبح تهدئة دائمة، متجاهلة أنها هي التي باتت تقف حارساً لهذه التهدئة، وهي التي باتت تصونها، وتكرس جزءاً غير قليل من مسلحيها لمنع أفراد المقاومة من إطلاق الصواريخ على العدو الإسرائيلي. و«حماس» تدعي أنها ضد طرح المفاوضات على طاولة الحوار حتى لا تتحول المفاوضات إلى قرار وطني فلسطيني ملزم لها. تناست أن وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني جمعت بين سلاح المقاومة وسلاح المفاوضات. وتناست أن طاهر النونو، الناطق باسم «حكومة» هنية صرخ مؤخراً أن هنية أكد للنواب الأوروبيين استعداد حركته لاحترام الاتفاقات الموقعة من جانب السلطة ومنظمة التحرير (أي أوسلو وغيرها من الاتفاقات والمعاهدات). وتناست أن خالد مشعل صرح في أكثر من مرة عن استعداد حركته للدخول في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وبرعاية أميركية، تقود إلى هدنة طويلة.
بعد هذا، دعونا نقرأ ما جاء في إحدى زوايا «فلسطين المسلمة» في عددها الأخير. تتوقع المجلة أن تشهد العلاقات بين «حماس» وعدد من الدول العربية والأوروبية انفراجات، تعزز موقع الحركة سياسياً. لكن المجلة تجاهلت أن الحالة الفلسطينية في ظل الانقسام القائم والحصار المفروض على القطاع، مرشحة لمزيد من الأزمات. وهكذا، حين نقرأ ما جاء في «فلسطين المسلمة»، نشتمّ بين السطور رائحة لعقلية سياسية فئوية، تتجاهل المصالح الوطنية بما فيها مصالح القواعد الشعبية للحركة نفسها، حرصاً على مصالح نخبة تمسك بزمام القرار وبمغانم سلطة مغتصبة.
* عضو اللجنة التنفيذية
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين