نزار عبود *المراقب لتحركات القيادة السعودية الإقليمية في الأشهر الماضية يلاحظ فيها لهاثاً وهرولة نحو تحقيق موقع ريادي، بتقديم تنازلات عقائدية ومغريات مالية، فشلت في تحقيقه منذ انحسار المدّ الناصري في السبعينيات والتيار الصدّامي في الثمانينيات من القرن الماضي. لكن بوادر النجاح تبدو شبه معدومة. لا يكتفي الملك عبد الله بن عبد العزيز بإطلاق مبادرات على غرار ما جري في الأشهر الثلاثة الأخيرة بين مؤتمري مدريد ونيويورك بشأن «حوار الأديان» ودعوة شمعون بيريز والجلوس معه على مأدبة واحدة والاستماع إلى خطابه كلمة كلمة. بل إنه مضى إلى أبعد من ذلك شارباً أنخاب افتتاح قمة العشرين في واشنطن لمعالجة الأزمة المالية أمام كل العدسات. أمر ما كان ينتظره الشارع السعودي المسلم ممن يطلق على نفسه «خادم الحرمين الشريفين».
غير أن المرحلة تتسم بدينامية خاصة تستدعي من الملك التخلي عن الكثير من «الشكليات الجوهرية» لكي لا ينزلق نهائياً للتضحية بمركز المملكة في المعادلات الدولية. السعودية تشعر بأن الدور الإيراني ـــ السوري يزداد تجذراً في المنطقة بعد النكسات الكثيرة التي مُني بها المعسكر المقابل منذ غزو العراق وأفغانستان ومحاولة غزو لبنان. وأن الشارع الأميركي عبّر، عبر عدم التصويت للمرشح الرئاسي الجمهوري جون ماكاين، عن رفضه لسياسات المحافظين الجدد التي أوصلته إلى الهاوية وقوّضت مكانة الولايات المتحدة الدولية من شتى المناحي.
لذا لجأت الرياض إلى تحركات تشابه ما حاولت فعله في حقب سابقة وفشلت. فهي تحاول تقديم نفسها وكيلاً إقليمياً نافذاً عن طريق تعزيز قدراتها العسكرية كسلوك تعويضي عن ضعف سلطتها السياسية والمعنوية. فعندما جاء عبد الله إلى نيويورك طارحاً «توبته من التعصب للوهابية» مصطحباً شيخ الأزهر محمد سيد الطنطاوي، لم يعلن عن فتح الطريق أمام المزيد من الانفتاح الديني في السعودية بالسماح بإقامة مساجد ودور عبادة لطوائف غير وهابية في أرض خادم الحرمين. كما أن وفده إلى نيويورك لم يضمّ شخصية واحدة غير وهابية من السعودية، بالرغم من أن ثلث المجتمع السعودي لا يدين بالوهابية. وفي المقابل أراد أن يظهر أنه تمتع بمرونة ثقافية وسياسية مكّنته من الجلوس إلى مأدبة مع مرتكب المجازر الصهيونية بحق الأطفال العرب.
وجاءت المناسبة في وقت تعمدت الحكومة الصهيونية تصعيد حملتها على سكان غزة. ولجأ بيريز خلال المؤتمر للتذكير بالاتفاق بين الصهيوني حاييم وايزمان وفيصل ابن شريف مكة في تشرين الثاني 1919 على السماح بإنشاء «وطن يهودي» على قسم من فلسطين، ليقول علناً إن الاتفاق مع السعودية مستمر منذ 89 عاماً.
في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد خروج العراق وإيران منهكتين من حرب ضروس، لجأت السعودية إلى عقد صفقات تسلح بمئات مليارات الدولارات مع بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين. بينها صفقة اليمامة مع بريطانيا التي انطوت على برنامج تدريب وتجهيز مستمر حتى يومنا هذا بقيمة 42 مليار استرليني. وفي الفترة نفسها، ورغم التدهور الشديد في أسعار النفط آنذاك، ضخت «أرامكو» الحكومية السعودية، عشرات المليارات من الاستثمارات النفطية الفاشلة في السوق الأميركية بشراء حصة ضخمة من محطات بيع الوقود تابعة لشركة «تكساكو» الأميركية. الصفقات الضخمة كانت للتأكيد على وزن السعودية شريكاً استراتيجياً كبيراً للغرب يؤمن الطاقة للعالم ويضمنها.
غير أن السعودية سرعان ما كشفت عن هزال دورها عندما تحرك صدام حسين واجتاح الكويت، مهدداً بالتقدم نحو المملكة نفسها بزحف جيشه نحو الخفجي. لم تستطع الرياض معالجة المشكلة بمفردها. وجرى التحرك خلف القوات الأميركية التي فتحت لها القواعد في الأرض المقدسة، وخيضت الحرب انطلاقاً من الأراضي السعودية. ولم تغادر تلك القوات الأجنبية المنطقة حتى بعد جلاء القوات العراقية عن الكويت.
اليوم تتحرك الرياض على خطين. الأول تقديم تنازلات سياسية ودينية بالغة الدلالة والحساسية لقاء آمال بالحصول على دور إلى جانب إسرائيل في احتواء نمو الدور الإيراني. ذلك الدور الذي قال عنه شمعون بيريز في مؤتمره الصحافي أثناء مؤتمر حوار الأديان في الأمم المتحدة إنه يرمي إلى «السيطرة التامة على الشرق الأوسط». وتحدث بيريز عن قدرة إسرائيل مع العرب على التصدي له. كما تحدث عن «الأصول الدينية المشتركة» التي اكتشفها بين اليهود والمسلمين.
أما الخط الثاني فهو في تكرار استغلال الثروة النفطية المتراكمة منذ طفرة الأسعار التي بدأت في تموز 2006، من أجل عقد صفقات تسلح بمئات مليارات الدولارات. فالسعودية تتحرك حالياً لدى أوروبا وروسيا والولايات المتحدة من أجل الحصول على أكبر قدر وأحدث أنواع الأسلحة. كما أن الملك عبد الله بحضوره قمة العشرين المالية يلعب لعبة الوزن المالي السعودي مقابل انعدام الوزن السياسي للرياض بعد الفشل الذريع في التأثير على مجرى الأمور في كل من لبنان وفلسطين والعراق بطريقة لا تقترن بتعميم خطر الإرهاب. فالعالم ما زال يعاني من إرهاب نابع من الأيديولوجية التكفيرية السعودية، فضلاً عن المال السعودي الذي يُوظّف بشكل تدميري في تمويل الإرهاب الحقيقي.
المراقبون الذين تتبعوا التحركات السعودية يعربون عن شكوك بالغة في أن تمنح الرياض دوراً مختلفاً في هذه المرة، لأن الظروف تبدلت كثيراً عما كانت عليه قبل بضعة أعوام وأشهر. فزمن القطب الواحد قد ولّى بصحوة القوة الروسية وصعود القوة الصينية وتعاظم القوة الإيرانية على كل المستويات. يواكب ذلك إدراك أوروبي بضرورة العمل المباشر مع كل القوى باستقلالية عن الولايات المتحدة. الرياض فشلت في تعطيل الدور السوري، كما فشلت في إقناع أوروبا بأنها قادرة على قيادة الإسلام المعتدل ولو عبر ثلاثة مؤتمرات بدأت في مكة وانتهت في نيويورك. كما أنها فشلت في القوطبة على الدور الإيراني الذي يزداد تجذراً، وخصوصاً نووياً.
أخيراً في الأمم المتحدة، أكد بيريز أنه والسعودية مع الأغلبية السنية في المنطقة مقابل الأقلية الشيعية. ولعبة المذهبية لم يلعبها بيريز عبثاً، فالعاهل السعودي نفسه لعبها ليس فقط في دمشق وطرابلس وبغداد وإسلام أباد، بل في نيويورك أيضاً. فالزعماء القلائل الذين حضروا القمة كانوا من حلف واحد.
* من أسرة الأخبار