عبد الأمير الركابي *يقول بعض من العراقيين الموكلين بإيجاد تبرير للغزو الأميركي، إنّ ما يشهده العراق منذ عام 2003، ليس احتلالاً، بل هو «تغيير». ويكملون فيخبروننا أن بعض الدول تتغير من الخارج، وبعضها تتغير من الداخل. لاحظوا أنّهم يصرّون على استعمال فعل «تتغير» للحالتين، مع أنّ الأصح طبعاً أن يُقال «تتغير من الداخل» و«تغيّر من الخارج» بالتتابع، نسبة إلى الفاعل في كل حالة. ألمانيا تغيرت من الخارج. الاتحاد السوفياتي تغيّر من الداخل. النظام العراقي تغير من الخارج. كنت شخصياً قد سمعت تلك النظرية من الرئيس جلال الطالباني بعد الغزو ببضعة أشهر، وقبل أن يصبح رئيساً. وكنا على شاشة أحد التلفزيونات المصرية. وقد قال وقتها إن الأميركيين لا يحتلون العراق، وأنهم سوف يغادرون كما فعلوا في ألمانيا. فلم أجد أمامي وقتها سوى التحدث عن الفرق بين الحالتين. ففي حالة ألمانيا، لم يتخذ قرار من أية جهة بتغيير نظامها، بل هي التي خاضت حرباً على أوروبا والعالم. وما حدث لنظامها لم يكن «تغييراً»، بل سحقاً لآلة دولة في سياق هزيمتها حربياً، والولايات المتحدة ساعدت ألمانيا، وأعادت بناء أوروبا من خلال مشروع مارشال لأنها كانت تريد تعزيز دورها القيادي على الغرب من ناحية، كما أنها تحوّلت إلى رأس الحربة في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، فكانت تحتاج إلى أوروبا منتعشة وناهضة. وكل ذلك جرى ضمن متطلبات الحرب الباردة وسياقها ومقتضياتها.
ليس هنالك أي مجال على الإطلاق للمقارنة بين الحالتين: كان تعداد سكان ألمانيا يزيد على السبعين مليوناً، وتتمتع باكتفاء ذاتي من جميع الوجوه، وهي أكثر دول أوروبا تقدماً من الناحية الصناعية، وتقف على أعتاب الانتقال لحيازة السلاح النووي. ولا داعي للمقارنة بين ألمانيا والعراق، كما من المستحيل عقد المقارنة بين سياق ما قامت به ألمانيا النازية، وما انتهت إليه، وبين الغزو الأميركي من جانب أقوى دولة في التاريخ، لبلد من بلدان العالم الثالث مشحون بالتوترات البنيوية، ويعاني من محنة إفراغ للقوى الحية بسبب قمع نظام دكتاتوري طال أمد وجوده في السلطة، وحركة وطنية تعاني انفصالاً مريعاً عن الواقع.
قلت ذلك كله وقتها، فيما لم أسمع رد الطالباني. اليوم ما زالت تلك الآراء المتهافتة والساذجة تتكرر، موحية بوجود «قوة تغيير عالمية»، أو لحظة تغيير تهب على المعمورة. نغمة تعود لأجواء الاختلال الكبير في التوازنات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومسارعة البعض لتصديق موضوعة المستقر الأخير للتاريخ باسم «نهايته»، ووجهة نظر المحافظين الجدد وكل جوقة منظري مشروع «الإمبراطورية الأميركية»، وبالذات نغمة تبرير الهيمنة وتحكّم الرأي الواحد، مع نفي طابع الهيمنه الصارخ.
بالنسبة لنا كشعوب طامحة إلى التقدم والاستقلال الفعلي، من الصعب إذا كنا أسوياء ألا نتساءل عن «الجهة الموكلة إليها مهمة التغيير»، وعن «الوسائل» التي تعتمدها، والمشروعية القانونية الدولية التي تبرر تدخلها، ومصدر التفويض الذي تعتمده. فثمة دولة وحيدة في العالم هي التي تتبنى اليوم سياسة «التغيير من الخارج»، مستعملة مختلف صنوف الدعاوى والأكاذيب الملفقة. ومن يؤمنون بالتغيير من الخارج، أو يبرّرونه لا يمكنهم أن يكونوا أقل من متطابقين مع هذه الجهة ومع نموذجها و«رسالتها للعالم». وهم حتماً منفصمون ومقتلعون طوعاً عن هموم بلادهم، أو عن مجرى الفعل الحي ضمن تاريخ تلك البلاد.
وهنا تنهض أمامنا معضلة أخرى تمثلت في العراق بظاهرة «التغرب الأقصى» التي انتهت إليها تجربة الحداثة السياسية العراقية المعاصرة. والأكيد أن هذه الظاهرة ليس هناك ما يماثلها في العالم العربي، ومع أن ظواهر أخرى من نوع مركز دراسات «ابن خلدون» ومديره في مصر تُعدّ عادة «ريادية» في خروجها عن السياق الفكري العام في المنطقة، ومع ظهور ما يمكن أن نطلق عليه تسمية تيار ينتمي إلى «الليبرالية الجديدة» في لبنان أو سوريا، أو بلدان عربية أخرى، بما في ذلك فلسطين. إلا أنه لم يحدث أن برزت حركة، تكاد تمثل مجموع قسمات التعبير الوطني في بلد عربي، متجاوزة الانحياز الفكري والسياسي العام، إلى الانخراط في مشروع الإمبراطورية وحملتها العسكرية، وغزوها الشامل بلداً من البلدان العربية.
هذا الكمال اللافت، حدث في العراق بالذات، من دون غيره. وركبت بأحكام سياقات تحالف، أو التحاق لقوى معارضة بمخططات الولايات المتحدة الأميركية، حين كانت هذه في عزها وذروة صعودها، ممّا أكسب المعارضة العراقية في التسعينيات صفة المعارضة الأكثر حظوة في التاريخ. فلم يسبق لمعارضة أن وجدت من الدعم السياسي والإعلامي والاستخباري والمادي، ما وجدته المعارضة العراقية الملتحقة بالولايات المتحدة وبمشروع الغزو (التغيير من الخارج). ولهذه الظاهرة طبعاً خاصياتها الذاتية والعالمية، ومسببات وجودها. وهي تحدرت من تعرجات تاريخ محلي وعالمي يجعلها محصلة 3 عوامل: الأول عجزها الذاتي، وهذا نعثر على تعبيراته خلال مسار العملية التاريخية الوطنية الحديثة. والثاني متأت من حصيلة نتجت من ذلك العجز، وتمثلت في انتصار «الدكتاتورية الصدامية»، والثالثة تحال إلى مصادفات التطور العالمي، ولحظة تحول أميركا إلى قوة كونية عظمى وحيدة.العجز والاقتلاع والاحتواء، هذه مقومات تمثّل ذلك النوع من المعارضة. ولا يعرف أحد من قبل مثالاً سياسياً ويملك مبررات نظرية يعتد بها. فالعوامل المتحكمة بتلك الظاهرة ليس فيها ما يبرر أصلاً توافرها على أية حيوية سياسية أو فكرية.
ومن المؤكد أن جذور هذه الظاهرة إنما تعود إلى خاصيات تطور العراق الحديث، وإلى ما أنتجته من انفصام الأفكار المستعارة الحداثية عن أبسط المعطيات التاريخية والوطنية، الأمر الذي يحوّلها قطعاً إلى معضلة خطرة آنياً وفي المستقبل. فالانفصام الكلي يترك البلاد للفراغ المطلق، عندما يؤول أمرها بفعل الغزو الأميركي إلى جماعات بلا رؤية خاصة ولا تتمتع بأية صلة بالواقع. نحن أمام قوى «معولمة» تكوّنت ضمن سياقات استثنائية وأنجبت ظاهرة «تغرّب كلي»، هي الصفة الأبرز لمثقفي هذه الحالة. لهذه الغربة المطلقة أثمان وقوانين صناعة ورعاية، نجدها في ما تقوم به أوساط مراكز الأبحاث الغربية من حجب أسماء مع التركيز على أسماء بعينها باعتبارها الأكثر معرفة وثقافة على مستوى العراق، بينما المقصود بهؤلاء جمع من المتوافقين مع متطلبات مراكز البحث الأميركي والغربي، وحتى الإسرائيلي، لأشخاص بلا رؤية، ولا صلة بخاصيات العراق، أو معرفة بآليات تاريخه. ولم يحدث سابقاً أن استضاف رئيس أميركي مثقفين بصفتهم تلك، كما فعل بوش الابن عندما التقى في البيت الأبيض ثلاثة من هؤلاء يتقدمهم كنعان مكية وسمير الخليل.
حين كان الغزو يقترب من التنفيذ عام 2003، طرح وطنيون عراقيون مبادرة، تقول بـ«التغيير من دون حرب» وقد نُشرت هذه المبادرة، وجرى التعريف بها في مؤتمرات صحافية عُقدت في عواصم غربية. إلا أن صوتاً كهذا لم يكن ليُسمع وسط هدير الآلة الإعلامية والسياسية الأميركية. والأهم في تلك المبادرة كان القول إن التغيير مطلوب ولازم، ولكن هل الحرب على العراق هي الوسيلة الوحيدة والإجبارية، التي لا وسيلة غيرها دولياً للوصول لمثل هذا الهدف؟ الأميركيون كانوا يريدون الحرب، والمتعاونون معهم من العراقيين متحمسون من منطلق حرق الغابة بغية قتل الوحش. المعضلة الأكبر أن هؤلاء لا يملكون حتى القدرة على تصور كيف يمكن إطفاء الحريق بعد موت الوحش، وهم ما زالوا يكابرون ويعاندون هذه المرة، ليس لأنهم حوّلوا السياسة الوطنية إلى حقد أعمى، بل لأنهم اكتشفوا انغلاق السبل بوجههم بعد الغزو، وتحول الحرب إلى كارثة تفوق في فظاعتها ما كانت عليه الحال قبلها، وما عاد لديهم غير أن يقطعوا حتى آخر ما بقي من أواصر عاطفية ببلادهم. هكذا يمكن للثقافة بعد طول السنين أن تنجب مسوخاً.
* كاتب عراقي