محمد زبيبالأكيد أن الرئيس فؤاد السنيورة نطق في جلسة الحكومة السبت الماضي بعبارة واضحة لا لبس فيها: «الخصخصة لن تتم قبل سنتين»... ربما نطق بها «هكذا» للرد على تحفّظات بعض الوزراء على قرار إجراء استدراج عروض جديد لتلزيم إدارة وتشغيل شبكتي الهاتف الخلوي لمدة سنة قابلة للتجديد سنة ثانية، بعد فقدان شركة «ALFA» لأهليّتها في الاستمرار... وربما لم يقصد بعبارته هذه تحديد أي موعد جديد ودقيق لإجراء المزايدة العتيدة لبيع الرخصتين، وإنما أراد القول ببساطة إن الظروف الحالية محلياً وفي الأسواق العالمية لا تسمح بإنجاز هذه العملية في عام 2009، على أقل تقدير، وبالتالي لن يكون هناك تعارض بين عملية البيع وقرار استدراج العروض المذكور، ولا داعي للعجلة عبر تلزيم عقدَي الإدارة بالتراضي، كما كان قد اقترح وزير الاتصالات جبران باسيل، فهناك متسع من الوقت قبل أن تسمح الظروف مجدداً للانقضاض على قطاع الاتصالات «الفاتح للشهية» وبيعه نهائياً كخردة إلى حفنة من المنتفعين.
وربما هناك أسباب أخرى دفعت بالرئيس السنيورة لقول ما قاله، فليس هناك أحد غيره قابعاً في رأسه ليدرك أسبابه على وجه التحديد، ولكنه في النهاية نطق بهذه العبارة ومضى ليتابع مشاغله المعتادة، وسمعه كل الوزراء الذين كانوا منصتين إليه في هذه الجلسة، وهذا ما يجعل منها حقيقة قائمة لا تقبل الشك أو الإنكار، حتى لو تراجع عنها الرئيس السنيورة نفسه في ما بعد، وهذا لم يحصل على أي حال، بل إن المعنيين الآخرين بهذا الملف، ومنهم وزير الاتصالات والأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك، صرّحوا، قبل ذلك وبعده، بما يشبه معناها!
إذاً، الواقعة قد وقعت فعلاً، وبات جميع العارفين يرددون بأن خصخصة الخلوي لن تتم في موعد أقصاه شهر تموز المقبل، بحسب ما جاء في مشروع قانون موازنة عام 2009، فما الذي يدفع بوزير المال محمد شطح للتبرّع بمحاولة «ميؤوس منها» من أجل الإيحاء بأن الرئيس السنيورة لم ينطق تماماً بما نطق به؟
لقد أوردت «الأخبار» عبارة السنيورة في عددها يوم الاثنين الماضي، نقلاً عن عدد من الوزراء، في إطار متابعتها لوقائع جلسة مجلس الوزراء، فإذا بالوزير شطح يدبّج تصريحاً في اليوم الثاني، من دون أن يسأله أحد، يقول فيه «لم أسمع شخصياً الرئيس السنيورة يتنبأ بأن الخصخصة لن تتحقق قبل سنتين»، فيتحوّل هذا التصريح في البيان الإعلامي الصادر عن مكتبه، بمعرفته، إلى نفي قاطع تتناقله الصحف ووسائل الإعلام كعنوان رئيسي من دون أي تدقيق أو استفسار، ليبقى عالقاً في ذهن من يتابع من الناس بأن هناك من يحاول أن يطلق «الشائعات» لعرقلة إنجازات عظيمة تنوي حكومة «الإرادة الوطنية» تحقيقها.
المفارقة الغريبة أن الوزير شطح لم ينف، بل زعم أنه «شخصياً» لم يسمع، بمعنى أن هناك احتمالاً من اثنين: إمّا أن يكون الرئيس السنيورة قد قال ما قاله ولم يسمعه الوزير شطح، وإمّا أن الرئيس السنيورة لم يقل شيئاً من هذا القبيل ولذلك لم يسمعه الوزير شطح... وبالتالي هناك فرق كبير بين النفي وعدم الجزم، فالتصريح دقيق لجهة ترك الأمور «مشكولة» بحيث لا يتحمّل صاحب التصريح مسؤولية مباشرة في تكذيب زملائه الوزراء الذين صودف أنهم سمعوا جيداً ولم يكن انتباههم مشتتاً حينها.
أمّا المفارقة الأغرب فهي أن الوزير شطح، في التصريح المدبّج نفسه، يؤكّد الواقعة في معرض محاولة التشكيك فيها، إذ يقول «ليس هناك من قرار أو تنبّؤ في شأن توقيت هذه العملية ـــ أي الخصخصة... فالأمر يعتمد على عوامل عدة، أهمها: وضع الأسواق والاقتصاد العالمي، فعندما نطرح للخصخصة مرفقاً كبيراً كرخصتي الخلوي في لبنان يجب مراقبة الأسواق واستعداداتها، إذ إنها تنعكس على الأسعار»، وتابع «ما حصل في مجلس الوزراء لم يكن له علاقة مباشرة بموضوع الخصخصة، فاعتبارات توقيت الخصخصة مفهومة، وليس لها علاقة بمن يأخذ عقد التشغيل...».
طبعاً، لا يريد بعض الإعلام التنبّه إلى أن ما نُقل عن السنيورة في جلسة الحكومة، هو تماماً ما يقوله الوزير شطح «مواربة» في تصريحه المذكور، مع فارق بسيط «غير جوهري»، إذ إن الأول اضطر إلى البوح بتكهّناته لمعالجة تحفّظات «موضعية» على إجراء استدراج عروض من المفترض أنه سيتم في الوقت نفسه لمزايدة البيع المطروحة، فيما الثاني سيضطّر في حال الإقرار بذلك إلى استعادة مشروع موازنته ورميها في سلّة المهملات بأمّها وأبيها لكون أرقامها كلها مبنيّة على فرضية أن بيع الرخصتين سيتم في النصف الأول من العام المقبل، وبالتالي ستنعكس إيرادات البيع خفضاً في أصل الدين العام بقيمة تقدّر بحوالى 5 آلاف مليار ليرة تقريباً، وهذا يعني تقديراً أقل لكلفة خدمة الدين من الكلفة الحقيقية، وتقديراً أقل للعجز ومجمل الدين العام... والأهم تقديراً أقل لحجم الالتزامات التي ستتحقق في إطار ما يسمى باريس 3، ولا سيما المشروطة بتنفيذ الخصخصة وضبط العجز ونموّ الدّين العام.