إسكندر منصور *لم ينتظر مفكّرو السياسة الأميركيّة انتهاء ولاية جورج بوش ليباشروا النقاش والكتابة عن مرحلة ما بعد بوش. فالنقاش كان قد بدأ منذ فترة تزيد على السنة. وورش العمل في قاعات الجامعات ودوائر الأبحاث والمجلات التي تهتم بالسياسة الخارجيّة بدأت تعدّ أعداداً خاصة عن السياسة الخارجيّة المحتملة للرئيس القادم، أكان ديموقراطياً أم جمهورياً. الأسئلة كثيرة عن السياسة الخارجيّة الأميركيّة القادمة ومهماتها وآفاقها. هل ستختلف عن السياسة الراهنة أم ستسير على خطاها؟ هل نحن في زمن مغادرة السياسة الخارجيّة القائمة على الحكم المسبق والنظرة الإيديولوجيّة التي صاغها المحافظون الجدد، وطبعت السياسة الخارجيّة لإدارة جورج دبليو بوش لفترة ثماني سنوات؟ هل نحن في زمن الانتقال / العودة إلى الواقعيّة السياسية المتحررة جزئياً من البعد الأيديولوجي، التي مارسها هنري كيسنجر وجايمس بيكر وزبيغنيو بريجينسكي وبرنت سكوكروفت ومادلين أولبريت وغيرهم من جمهوريين وديموقراطيّين؟
بدأ الحنين إلى مدرسة الواقعيّة السياسيّة بعدما أدخل المحافظون الجدد الولايات المتحدة في سياسة المجهول القائمة على الحروب الاستباقيّة و«تغيير» العالم بما يلائم صورتهم وأحلامهم البعيدة عن أرض الواقع بأبعاده الجغرافيّة والسياسيّة والثقافيّة. لكنّ وحدة موقف المحافظين الجدد وتضامنهم والتفافهم حول نهجهم بدأت بالانهيار والتصدّع بعدما أخذت تتضح ملامح الفشل في حربهم على العراق وانتشار ظاهرة «الأنتا أميركان» خارج ما عرف بـ«العالم الثالث» لتشمل القارة الأوروبيّة بأكملها.
فبدأت أصوات المنشقين و«التائبين» تشق طريقها في الإعلام. وكتب فرنسيس فوكوياما: «منذ 11 أيلول 2001 كانت السياسة الخارجيّة الأميركيّة تقوم على المغالاة في مستوى التهديد الناشئ عن القاعدة والدول المارقة كإيران، العراق وكوريا الشماليّة». هذه المغالاة في مستوى التهديد الناشئ كانت بهدف تسويق الحرب على العراق على حد تعبير فوكوياما؛ لأنّه، في نظر الكثيرين من الاستراتيجيين، الخطر الناشئ عن القاعدة والعراق لا يرقى إلى مستوى الخطر المهدد لطريقة أو لنمط الحياة الأميركيّة أكثر من الخطر الذي كان مصدره الاتحاد السوفياتي.
وإن كان هناك من جواب عن سؤال «لماذا يكرهوننا؟» فإنه يكمن بنظر فوكوياما «في مدى انخراطنا (تدخّلنا) في الشرق الأوسط. وقد يختفي هذا الخطر إذا ما خفَتَ مستوى تدخلنا في أمور الشرق الأوسط؛ أي أن يتحول من تدخّل بارز إلى حضور عادي».
وقد بلغت القطيعة بين فوكوياما والمحافظين الجدد والحزب الجمهوري ومرشحه جون ماكاين، حداً أعلن معه أنه سيصوِّت لباراك أوباما لأنّ جورج بوش في نظره لم يعرِّض مصالح أميركا للخطر فقط من خلال حروبه، بل شهد عهده أخطر أزمة اقتصاديّة لا تزال مفاعيلها في أولى خطواتها.
صدر أخيراً كتاب بعنوان «أميركا والعالم: أحاديث عن مستقبل السياسة الخارجيّة الأميركيّة»؛ وهو عبارة عن حوار ونقاش أداره الصحافي في «واشنطن بوست» ديفيد إغناسيوس مع مفكريْن استراتيجيين خدما في مناصب حساسة في الإدارات السابقة. أولهما بريجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس السابق جيمي كارتر خلال الحرب الباردة؛ والثاني سكوكرفت وهو جنرال سابق في الجيش وخدم في عدة إدارات جمهوريّة، وكان أيضاً مستشار الأمن القومي للرئيس جورج بوش من 1989-1992 خلال الحرب الأولى على العراق. يتطرّق النقاش في الكتاب وبمقاربة نقديّة واضحة لا لبس فيها إلى مواضيع عديدة منها السياسة الأميركيّة نحو إيران والعراق والقضيّة الفلسطينيّة؛ إضافةً إلى العلاقات الأميركيّة مع كل من الصين وأوروبا وروسيا.
تركّزت مقاربة كل من سكوكرفت وبريجينسكي وإن كانت تختلف في بعض النقاط، أولاً على أولوية الحوار وإبقاء خط التواصل بين الأطراف المتنازعة؛ وخاصة بين الولايات المتحدة وكل من إيران وحماس. بالنسبة إلى سكوكرفت، حماس «ليست جاهزة للاعتراف بإسرائيل، ولكنها جاهزة للقبول بهدنة طويلة تزيد على العشر سنوات. فلو كنا أذكياء وهذا يعني فتح خطوط التواصل معها «لجعلنا موقف حماس يقترب من موقف فتح مع الوقت» لأنّ مقاطعتنا لحماس جعلتها ليس فقط أكثر شعبيّة، بل في النهاية أضعفت منظمة فتح.
وهنا يتقاطع موقف بريجينسكي مع سكوكرفت في الدعوة إلى الحوار مع حماس، ليس فقط لضرورة سياسيّة وهذا مهم، بل أيضاً لضرورة «أخلاقيّة» حسب تعبير بريجينسكي. لأنه «على المستوى الأخلاقي، عدم التعاطي مع حماس يعني مقاطعتهم وفرض القصاص على حوالى مليون ونصف مليون إنسان يسكنون في غزة. وعلينا ألّا ننسى أنّ هؤلاء ليسوا أعداءنا»، وهذه المقاطعة والسياسة ستزيد من حالة العداء لأميركا في هذه المنطقة الحيويّة (على حد تعبير بريجينسكي)، بالنسبة إلى الولايات المتحدة. إنّ دعوتهما للرئيس الجديد المقبل إلى أن يكون قائداً حقاً ويساعد على انخراط أميركي فاعل ــ ليس بالكلام فقط كما فعل جورج بوش خلال ولايته ــ لحل المشكلة الفلسطينيّة على قاعدة دولتين، سيؤدي إلى نزع فتيل العنف المولّد «للإرهاب».
وهنا لا يدعوان فقط للعودة إلى الواقعيّة السياسية في السياسة الخارجيّة بل إلى الواقعيّة الفاعلة المنخرطة المحددة لإطار الحل المطلوب بنظرهم، والقائم على دولة فلسطينيّة منزوعة السلاح وقابلة للحياة في الضفة وغزة مع تبادل متساو للأراضي، ومشاركة حقيقيّة وفعليّة في القدس، التي ستكون عاصمة الدولة الفلسطينيّة الجديدة، على أن يتخلى الفلسطينيون عن حق العودة إلى المناطق التي طرودوا منها.
ثانياً: أما موقفهما من الحرب على العراق، فكان متشابهاً في أن هذه الحرب كانت حرب خيار لا حرب ضرورة؛ وبذلك، يؤيدان الدعوة لانسحاب كامل من العراق بعد تدريب قواه الأمنيّة وجيشه وعدم البقاء تحت أي ذريعة. فسكوكرفت ضدّ «أي وجود دائم في العراق»، وبريجينسكي يرى أي وجود أميركي في العراق سينظر إليه كـ«امتداد للاستعمار البريطاني» ويسهِّل «تفتيت العراق».
ثالثاً: في ما يتعلق بالتعاطي مع إيران، لا يخرج مستشارا الأمن القومي السابقان عن النصّ الذي يدعو إلى الحوار والانخراط والابتعاد عن اللعبة الصفريّة التي تدعو إيران للتنازل الكلي للمطالب الأميركيّة دون أي تنازل مقابل من الولايات المتحدة.
وهنا وتبعاً لمقاربة بريجينسكي للمسألة النوويّة الإيرانيّة يقول: «كما تعايشنا مع كوريا شماليّة نوويّة وتابعنا مقاربة سلميّة للأزمة من دون أن نذهب للحرب، يمكننا أن نتعلّم من هذا الدرس للتعاطي مع إيران». فالخيار العسكري فقط في حال وجود خطر حقيقي، لا خطر وهمي مبني على فرضيات. ويتابع أنّ «أي هجوم على إيران يدخل الولايات المتحدة في حرب تشمل العراق وإيران وأفغانستان وربما باكستان، وبالتأكيد ستمتد لدول الخليج»، وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي والعلاقة مع العالم الإسلامي ستكون كبيرة جداً، من الصعب التحكُّم في مسارها ونتائجها.
فالدور الإقليمي الذي تؤدّيه إيران الثوريّة عبر حماس في فلسطين، وحزب الله لا علاقة لها به باستثناء استغلال الوضع القائم.
صحيح أن إيران تساعد حماس مالياً وعسكرياً لكن بريجينسكي يؤكد أنّ «حماس نشأت نتيجة الظروف في غزة»، التي هي ظروف الاحتلال. وما ينطبق على غزة ينطبق كذلك على حزب الله في لبنان. يقول بريجينسكي: «هل تستطيع أن تتخيل وجود حزب الله من دون الغزو الإسرائيلي»؟ إذن، لقطع الطريق على إيران التوسعيّة الطامحة، على الولايات المتحدة أن تنخرط في عمليّة سلميّة فاعلة لحل القضيّة الفلسطينيّة أولاًً، وهذا ما عجزت عنه إدارة جورج بوش خلال الثماني سنوات الماضيّة بالرغم من «الوعود» الكثيرة. لا بل شجعت المتطرفين الإسرائليين، وخصوصاً في حربهم على لبنان خلال تموز 2006، حتى يصحّ القول إنها كانت حرباً أميركيّة بالدرجة الأولى.
إنّ الواقعيّة السياسية التي يدعو إليها كل من سكوكروفت وبريجينسكي وفوكوياما وكثير من الاستراتجيين الأميركيين الذين رفعوا الصوت ضد إدارة جورج بوش ــ التي بنظرهم عرّضت أمن ومصالح وفعاليّة الدور الأميركي للخطر ــ ليست سوى محاولة لتأمين مصالح الإمبراطوريّة الأميركيّة وهيمنتها في زمن أفول دور القطب الواحد التي عاشته أميركا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتهيئة أميركا للتعايش مع عالم متعدد الأقطاب آت وبأسرع مما يتصوره الكثيرون.
هل يستطيع باراك أوباما إيقاف عجلة أفول نجم القطب الواحد / القوة الوحيدة أم انتُخب ليسهِّل العبور بطريقة سلمية إلى عالم متعدد الأقطاب.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة