عصام نعمان *ينتظر الجميع باراك أوباما وما ينوي فعله. ينتظرون مواقفه من جملة قضايا وتحديات أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية، وبرنامج إيران النووي، والانسحاب من العراق، وتصاعد الحرب في أفغانستان، والدولة الفلسطينية في ضوء تعثر «خريطة الطريق».
تتصل بهذه القضايا والتحديات قضايا أخرى متفرعة عنها بل تبدو على قدر من الأهمية لأن لها تأثيراً في القضايا الأساسية. من بين هذه القضايا، ما سيكون موقف الولايات المتحدة ــ أوباما، من سوريا. هل تعتبر دمشق مؤهلة لتسوية مبكرة معها على أساس فك الارتباط مع إيران ومع تنظيمات المقاومة المتشددة التي تتخذ من دمشق مقراً لها وذلك من أجل تسويغ تسوية مطلوبة مع الكيان الصهيوني؟
ظاهر الحال يشير إلى أن سوريا تدعم المقاومات في فلسطين ولبنان والعراق، وأنها تتعاطف مع المعارضة العراقية الرافضة لـِ«اتفاقية وضع القوات الأميركية» قبل انتهاء التفويض الدولي المعطى من مجلس الأمن في 31/12/ 2008.
كما تبدو سوريا متمسكة بتفاهمها الاستراتيجي مع إيران، وليست في صدد التفريط به مقابل وعود غامضة بتسوية أشد غموضاً مع إسرائيل.
في المقابل، توحي دمشق من خلال مفاوضتها غير المباشرة مع إسرائيل عبر تركيا، ومن موقفها الإيجابي من مسألة تطبيع العلاقات مع لبنان في إطار ما جرى الاتفاق عليه في مؤتمر الدوحة، بـِ«إيجابية» متزايدة كانت واشنطن تطالبها بها دائماً.
يتحصل من المعطيات والاحتمالات المبيّنة آنفاً أن الحاجة إلى سوريا قائمة ولازمة وماثلة، ولا سيما للولايات المتحدة، إذا ما قررت إدارة أوباما الجديدة القيام بمقاربة مغايرة لقضايا المنطقة وأزماتها العالقة، قد تقودها إلى محاولة اجتراح تسويات ثنائية أو تسوية متكاملة لها. ولعل مردّ هذه الحاجة مزايا خمس تتمتع بها سوريا:
أولاها، موقعها الجيوسياسي المتميز في برزخ ممتد بين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والخليج العربي ــ الفارسي (عبر جنوب العراق حيث لحليفتها إيران نفوذ كبير).
ثانيتها، سيطرتها ضمن مسافة طويلة في أراضيها على خطوط أنابيب النفط الممتدة من العراق والسعودية إلى السواحل السورية واللبنانية والفلسطينية.
ثالثتها، تداخلها جغرافياً واجتماعياً وسياسياً واستخبارياً مع دول تعاني فيها الولايات المتحدة وإسرائيل حروباً واضطرابات أمنية كالعراق ولبنان وفلسطين، حيث نفوذ سوريا وفعاليتها يمكّنانها من أن تكون لاعباً رئيساً وقاسماً مشتركاً في أيّ جهود للتوصل إلى تسويات ثنائية بين دولتين أو تسوية متكاملة بين دول المنطقة. رابعتها، مكانتها ودورها لدى الكيانات غير الحكومية، كتنظيمات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وقدرتها تالياً على التأثير والتحريك والتفعيل من جهة، أو على التعاون من أجل التهدئة والتوفيق والضبط والربط من جهةٍ أخرى.
خامستها، تفاهمها وربما تحالفها الاستراتيجي مع إيران، ما يوفر لها الوزن والقدرة وهوامش الحركة اللازمة لتؤدّي دوراً فاعلاً في مجهودات المقاومة كما في جهود التسوية.
إذ تبدو سوريا حاجة عربية استراتيجية لمقاومة الصهيونية والهيمنة الأميركية من جهة، ومن جهة أخرى حاجة أميركية عملانية لترتيب تسويات ثنائية أو تسوية متكاملة في المنطقة، فإن سؤالاً مفتاحياً ينهض للتو: أيُّ خيار يقتضي اعتماده في المرحلة الراهنة، التعاون العربي ــ الإيراني على طريق المقاومة أم التعاون العربي ــ الأميركي على طريق التسوية؟
يمكن استخلاص الجواب بعد الإحاطة بالحقائق والخلاصات والتطلعات الآتية:
دخل المشروع الصهيوني مرحلة جديدة بتحويل إسرائيل «دولة يهودية» لا مكان فيها ولا دور لغير اليهود. واقترن هذا التحوّل بتوسيع رقعة الاستيطان في القدس والضفة الغربية ما يجعل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً.
يزداد الأمر خطورة بتفاقم العجز المائي الإسرائيلي، ذلك أن 70% من المياه التي يستهلكها الكيان الصهيوني تأتي من خارجه. فهو يسدّ 40% من مجموع استهلاكه السنوي من مياه الضفة، ونحو 30% من منطقة الجولان المحتل.
وتراجعت مكانة الولايات المتحدة وفعاليتها ونفوذها نتيجةَ تعثرها في العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان وانحيازها الأعمى لإسرائيل. هذا التراجع المحسوس أدّى، حسب رأي رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ريتشارد هاس، إلى «انتهاء العصر الأميركي، رابع العصور في تاريخ المنطقة الحديث. في المقابل نشأ شرق أوسط جديد تسبّب بأضرار هائلة، ليس فقط للمنطقة بل للولايات المتحدة والعالم أيضاً». لئن جرى إخراج مصر من دائرة الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتحييد السعودية وبقية دول الخليج العربية إزاء إسرائيل، ودفعها إلى التسليم بأولوية الخطر الإيراني على الخطر الصهيوني، فإن الدول العربية عموماً ودول الخليج خصوصاً، أبدت قلقها وبالتالي معارضتها لخيار استخدام القوة مع إيران نظراً لما سيجره ذلك من دمار وخراب على جميع دول المنطقة. إلى ذلك، يصعب على الولايات المتحدة التوصل إلى أي تسوية مع العراق أو إيران أو سوريا من دون مراعاة أمن مصالحها في المنطقة من جهة، وأمن إسرائيل من جهة أخرى. وليس هناك ما يشير إلى أن الوضع الداخلي في إسرائيل والنفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة، وتمسّك إيران ببرنامجها النووي كاملاً، ستمكّن الولايات المتحدة من الحصول على أوراق قوية تساعدها على ترتيب تسويات مقبولة مع الأطراف المعنيين في المستقبل المنظور.
فوق ذلك، لا تستطيع سوريا إقرار أي تسوية مع إسرائيل ما لم تتأمن بموجبها مطالب الحد الأدنى وهي: الانسحاب إلى خطوط وقف النار كما كانت عليه في 6/4/1967، وإعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة إلى لبنان، والمحافظة على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وفي مقدمها قيام دولة مستقلة وفق قرارات الأمم المتحدة تكون عاصمتها القدس وتضمن حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم.
كما تشترط إيران، لإقرار أي تسوية مع الولايات المتحدة، إغلاق ملفها النووي نهائياً لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولدى الأمم المتحدة، وتحقيق انسحاب أميركي كامل وناجز من العراق مع المحافظة على وحدته وأمنه، وصون أمن سوريا وسيادتها على كامل أراضيها بما فيها الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1967، والمحافظة على تنظيمات المقاومة وتعزيز حق الدول العربية والإسلامية في دعمها سياسياً ولوجستياً.
الأهم من ذلك كله، أن تنظيمات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق تتمسك بحقوق أوطانها التي لا تقبل التصرف، وترفض دخول الدول العربية المعنية بأي مفاوضات مع إسرائيل بالنظر الى عدم التكافؤ في موازين القوى بين الجانب العربي والجانب الصهيوني. وهي تدعو تالياً إلى توسيع دائرة الاشتباك مع العدوين الصهيوني والأميركي، واستثمار تراجعهما النسبي نتيجةَ تعثرهما في الصراع وذلك من أجل مزيد من الضغط عليهما ودفعهما تالياً إلى مزيد من التراجع والانهزام. هكذا يتضح أن سوريا، بما هي حالياً اللاعب العربي الرسمي الرئيس في ساحة الصراع والداعم الأول لقوى الممانعة والمقاومة، مدعوة إلى استخلاص القرار الاستراتيجي المناسب من عملية المفاضلة بين خيار المقاومة وخيار التسوية.
في ضوء عدم نضوج ظروف موضوعية مؤهِّلة لتسويات ثنائية أو تسوية متكاملة، يستقيم الاستنتاج بأن قوى الممانعة والمقاومة تستشعرُ حالياً وبحق مزايا التراجع المطرد في مكانة الولايات المتحدة وفعاليتها ونفوذها في المنطقة، وتحبذ خيار المقاومة بل تدعو سوريا، أصالةً عن نفسها ونيابةً عن الأمة، إلى اعتماده بهدف إخراج العرب من واقع تحوّلهم منطقةً عازلة بين قوى إقليمية مقتدرة، إسرائيل وتركيا وإيران، إلى مرتجى الإفادة من تفاهم سوريا الاستراتيجي مع إيران كي تضطلع بدور الرافعة القومية والسياسية لكيان اقتصادي وسياسي في المشرق العربي، يكون أعلى من السلطات القطرية القائمة، ورائداً في بناء اتحاد عربي متدرج في نموه وتكامله على غرار الاتحاد الأوروبي.
* وزير سابق