«دور الصحافة المتخصصة في تشجيع الحفاظ على المواقع الأثرية». كان ذلك هو عنوان الدراسة التي شاركت «الأخبار» من خلالها في مؤتمر «تشارك علم الآثار» في بكين، الذي أظهر علاقة الصينيين الإستنسابية بتاريخهم
بكين ـ جوان فرشخ بجالي
حدائق، بحيرة اصطناعية صغيرة، بيوت واسعة الأطراف ذات سقوف مزركشة وملونة بالأصفر والأخضر والأزرق، دون أن ننسى طبعاً التنين الحارس، الذي يربض على زوايا المباني مرحّباً بالزائرين الجدد. إنه حرم جامعة بكين الذي كان مقراً لرئيس الورزاء أيام حكم أباطرة سلالات الكينغ الذين أزيحوا عن العرش سنة 1911. مبانٍ تنضح جدرانها بروعة تاريخها القديم والمعاصر. فتلك القاعات الواسعة والعالية السقوف التي تصدح اليوم في أرجائها أصوات العلماء المشاركين في المؤتمر، وهم يناقشون قضاياهم، كانت تردد صدى مشاكل الشعب الصيني منذ أقل من قرن مضى. شعب ترك إرثاً هاماً قد يصعب فهمه وتستعصي طريقة التعامل معه على دولة قرر زعماؤها «إلغاء» ماضيهم وتناسيه. ولكن ثورة ماو تسي تونغ لم تنجح في تحقيق هدفها و«قتل» المعتقدات الصينية القديمة. فالصينيون شعب لا يزال يصلّي لأسلافه ويؤمن إيماناً مطلقاً بأن الرابط الأقوى للحياة الحالية يكمن في الحفاظ على علاقته بالماضي. فبالنسبة إلى الصينيّين، وعلماء الآثار منهم، هم ينحدرون من حضارة عمرها 5000 سنة عاشت دون انقطاع حقيقي في عاداتها رغم تبدّل حكم الأباطرة. فهم مثلاً لا يعرّفون القطع الأثرية بأنها قطع قديمة بل يسمّونها «ذخائر ثقافية»! ويرى كل فردٍ منهم أن أي مكتشف جديد كان ملكاً لأسلافه، وبالتالي يجب المحافظة على أكمل وجه. ويرى العلماء الصينيون أيضاً أن هدف عملهم هو «عرض حياة الأسلاف، وإحياء ذاكرة الأمة».
ولكن يبدو من المكتشفات الأثرية والمواقع التي تنقب علمياً أن هذه الأهداف تستعمل لأغراض سياسية أيضاً. فاللافت للنظر، من خلال مداخلات العلماء الصينين، أن المواقع الإمبرطورية ومقابر الأباطرة هي الوحيدة التي تحظى باهتمام الدولة والجامعات. مع العلم بأن الصين هي أرض أقدم حضارات العالم، ومما لا شك فيه أن أرضها تعج بالمدن القديمة الدفينة وبالقرى النائية في الريف، التي تغيب عن خارطة أثرية وسياحية لا تظهر عليها سوى القصور والمقابر. كما لو أن الصين لم تكن يوماً إلّا مملكة قوية، عظيمة وغنية... فمع الأسف لم يستبعد علم الآثار عن سياسة الدولة القوية التي تسخّر التاريخ لإعطاء نفسها بعداً زمنياً يمنحها الجبروت على شعبها. ولو كانت الصين تبحث حقاً في ماضيها لإظهار كل جوانب تاريخها وحضارتها، لكان علماء الآثار قد نقّبوا عن المدن التاريخية واكتشفوا عادات الشعب الصيني وتقاليده، والمزارع الصيني، والحرفي الفقير... ولكن للأسف، فتفاصيل حياة الإنسان ـ الفرد كانت ولا تزال لا تهم السلطات العظمى.
هذا ما يستنتجه المشارك في المؤتمر من خلال الاستماع إلى مداخلات العلماء الصينيين. في اليوم الأول، عرضوا قضية الآثار في بلادهم كما لو كانت خالية من المشاكل. كل شيء جميل والوضع جيد هناك. ولكن، كلما طال اللقاء، انفرجت القلوب وباحت ببعض ما في داخلها. فالمشاكل في الصين هي على ضخامة البلاد، حيث يفتح كل اكتشاف لموقع أثري مهم باب التساؤل: ما هو مصير الـ200.000 شخص الذين بنوا منازلهم فوق الموقع؟ عملية إخلاء واسعة أم التغاضي عن الآثار؟ تساؤل تأتي الإجابة عنه: إخلاء سريع وتهيئة للموقع الأثري... وحينما يأتي التساؤل من المشاركين في المؤتمر عن مصير هؤلاء الأشخاص، تأتي الإجابة بأن الأولوية في هذه الحالة هي للآثار، وأن الأشخاص دفعت لهم تعويضات، وهي إجابة أبدى بعض المشاركين تشكّكهم في صحتها.
والمثير للاهتمام أن العلماء الصينيين يعتمدون في منهجيتهم آخر الدراسات التي تتّبع في الغرب لاستقطاب السياح. فتماشياً مع مبدأ «علم الآثار لعامة الشعب» الذي كانت قد أطلقته بريطانيا منذ أكثر من عقد، قررت الصين تعريف شعبها بالآثار. فجندت أكثر من 1000 شخص لارتداء الزي التاريخي التقليدي وتقديم الحفلات في المواقع الأثرية الكبرى، لاستقطاب السياح. ونظمت في المدينة المحرمة زيارات واسعة شارك فيها الجيش لتعريف الشعب بماضي الصين العظيم. وحينما أطلق «يوم التراث»، كرّس التلفزيون الوطني 4 ساعات من البث الحي عن مختلف المواقع الأثرية لمتابعة آخر المكتشفات... حملات واسعة على صعيد الوطن تهدف دائماً «لتعريف الشعب بماضي الأمة»، وهي بالطبع خطوة عملاقة ومستحبة ولكن طريقة تطبيقها تظل قديمة بعض الشيء. فعلماء الآثار، وممثلو السّلطات، لا يطبّقون مبدأ «حث المواطن» على اكتشاف ماضيه، بل مبدأ تعليمه إياه كدرس تقدم فيه المواعظ. فالطرق المستعملة لا تحفّز المواطن على التفكير والتحليل بل تحوله إلى مستمع وإلى متفرج ساكن وهادئ.
خلال هذا المؤتمر، حاول علماء الآثار المدعوّون، الذين يديرون مشاريع مختلفة في مناطق متفرقة من العالم، مشاركة خبراتهم مع زملائهم الصينين وتبادل الطرق المتبعة لحل المشاكل التي تتشابه في جميع أقطار العالم. فكانت مداخلاتهم مهمة لبعض المشاركين، بينما لم يرحب بها البعض الآخر. فلقد كان هذا المؤتمر بمثابة الخطوة الأولى من نوعها في حقل علم الآثار في الصين، لاقت بعضاً من الرواج المطلوب على صعيد المشاركة من الفريقين.