عمر نشّابةطلقة نارية واحدة لم تكن كافية لاغتيال نظام العدالة في لبنان. ولا طلقتان او ثلاث او عشر أو مئة طلقة ... بل تطلّب الأمر خلال 65 سنة من الاستقلال، رشقات مدفعية من العيارالثقيل اخترقت جسم القضاء فمزّقته حارمة آلاف المواطنين حقوقهم في حكم القانون لحلّ مشاكلهم. والتهبت الجروح وانتشر المرض الذي اضعف الجسد الى حدّ جعله عرضة للتلاعب والتحايل والتذاكي. وفقدت سيّدة العدالة عينيها بدل ان تغمضها قليلا، وانكسر سيفها فاصبح خنجراً للزعران لا سلطة عليه ولا رقيب واكل السوس اطراف كتابها فسقطت منه عشرات المواد القانونية. ولما حاولت السيدة رفع صوتها لم يسمعها أحد، أو ظنوا أنها تشكو من متعة
الكسل.
ولم يكن وصف "الاخبار" حال قاعات المحاكم وممرات قصور العدل والمستودعات التي تحفظ فيها الوثائق والمستندات لمجرّد لفت النظر الى ضرورة الاصلاح الهندسي واعادة تصميم الديكور. بل كان الهدف دلّ المواطنين على مظاهر ترمز الى مستوى العدالة والاهتمام الذي تخصصه السلطة لتحقيقها.
خلال اللحظات الاولى التي تبعت اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 ظنّ بعض السذّج ان الاهتمام الاكبر لآل الضحية ولتياره السياسي والشعبي أولاً والتيارات والاحزاب الاخرى ثانياً وكذلك السياسيون الذين ترأسوا أوانضموا الى الحكومة التي سيطرت على الدولة لاحقاً، سيرفعون راية العدالة المحلية ويطلقون عملية معالجة جروح الجسم القضائي وامراضه. غير انهم فضّلوا اللجوء الى القضاء الدولي اما لأنهم وجدوا في معاناة القضاء المحلي مرضاً عضالاً واما لأنهم يعلمون ضعف طاقتهم على مداواة الجروح واعادة الحياة الى مؤسسات متآكلة.
لم تقتصر عملية تهميش القضاء خلال الاعوام الاخيرة على اهماله وتغييبه عن الاولويات بل قامت الطبقة السياسية الحاكمة بتعميق الجروح عبر التشهير به بصوت عال امام العالم وفي مجلس الامن الدولي. وحضر ضابط شرطة ايرلندي الى بيروت ليصدر تقريره الذي يحاكم فيه قضاة لبنان بينما صفّق له المليون في ساحة الشهداء.
ولم يتحدّث أحد ولو هامشياً، عن خطة او سعي او حتى ارادة لاصلاح القضاء المحلي ومداواة جروحه وامراضه.
شعر بعض القضاة بأن السلطة تخلّت عنهم وامعنت في التشكيك بمصداقيتهم ونزاهتهم، بينما هرول آخرون الى قصور الزعماء الجدد وألبسوهم عباءتهم.
وزير العدل السابق وكوادر وزارته انكبوا على العمل ليل نهار لانجاح تأسيس المحكمة الدولية للبنان. وقضى معالي المعالي وسعادة السعادة ساعات واياماً وشهوراً طويلة ينتقلان من اجتماع الى آخريبحثان في اضافة او حذف فاصلة في الصفحة الرابعة او العاشرة او العشرين في نصّ نظام المحكمة الدولية. وحضر مستشار الامين العام للامم المتحدة للشؤون القضائية الى بيروت وانتقل الى العدلية للاجتماع بالوزير والقضاة. لا شك انه صعد الدرج وشاهد الى يمينه ويساره قاعات محاكمنا الوطنية. ولا شك انه علم بغياب المكننة وبفوضى الملفات والمستندات. ولا شك انه لاحظ النفايات في الممرات والاثاث المهترئ. ولا شك انه ظنّ ان تقديم شعب وحكومة محكمة اجنبية على محاكمه الوطنية امر يدلّ على الكثير الكثير في نظام القيم وفي السيادة الوطنية وفي اسس قيام الجمهورية اللبنانية.
وربما يحتفل بعض القضاة غداً بعيد الاستقلال باعلان استقالتهم. وربما يحتفل مئات الآلاف من 14 آذار رافعين الاعلام اللبنانية باعلان امين عام الامم المتحدة من نيويورك أو من سيول أو من لاهاي انطلاق المحكمة الدولية للبنان.
لماذا يتعجب البعض اذا فضّل قضاة لبنانيون الانضمام الى المحكمة الدولية على موقعهم الحالي؟ ولماذا يتعجّب آخرون ان يستعجل قضاة موعد تقاعدهم من القضاء؟
المحكمة الدولية ستحقق العدالة اذا عملت بالشكل المناسب وبحسب معايير قانونية ومهنية دقيقة، غير انها حققت اشياء اخرى قبل انطلاقها. لم تضف طلقة مدفعية في جسم القضاء المتألّم بل سحبت منه ما تبقّى من ثقة الناس به عبر تكريس تكبّر الاجنبي على الوطني. قضاة المحكمة الدولية اللبنانيون لا يسمح نظامها لأي منهم ان يكون رئيساً للمحكمة أو قاضي الاجراءات التمهيدية او مدعياً عاماً. ولا اكثرية لهم في هيئة المحكمة او في محكمة الاستئناف. القضاة اللبنانيون هم اقلية في محكمة ... للبنان.
فقدت سيدة العدالة سيادتها.