مصطفى بسيوني *الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، ليست أحداثاً غريبة على عمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى بدلتا مصر، البالغ عددهم 24 ألف عامل وعاملة. ورغم أن عمال غزل المحلة كانوا نظموا تظاهرة في 17 شباط / فبراير 2008 للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور لكل عمال مصر، في سابقة هي الأولى، فإن الوقفة الاحتجاجية التي نظمها آلاف منهم يوم 30 تشرين الأول / أكتوبر 2008 كان لها معنى مختلف عن كل الاحتجاجات التي نظموها بشكل شبه متواصل منذ نهاية 2006. نظم عمال شركة المحلة وقفتهم بعد انعقاد الجمعية العمومية للشركة التي أعلنت عن خسائر تقدر بـ144 مليون جنيه، على الرغم من إسقاط ديون على الشركة بما يقرب من مليار جنيه عقب إضراب العمال في كانون الأول / ديسمبر 2006، وهو ما جعل العمال يتوقعون أن الشركة ستبدأ في الازدهار أخيراً بعدما خفّت عنها أعباء خدمة الدين، وبعدما وعد رئيس الوزراء أحمد نظيف بضخ استثمارات لها بقيمة 440 مليون جنيه عقب انتفاضة نيسان / أبريل 2008. صدم العمال بنتائج الجمعية العمومية. هذا إضافة لصدمتهم بالتراجع المستمر لمعدلات الإنتاج والتشغيل في الشركة، ووجود أقسام إنتاجية متوقفة بالكامل عن العمل، (حسب مصادر في الشركة، فما يزيد على 160 ماكينة متوقفة)، واشتعال حرائق في المباني عقب إجازة عيد الفطر، تسببت في خسائر فادحة.
وعلى المستوى الإداري، أثار عدم تأليف مجلس إدارة في الشركة وتسليم زمامها لمفوض عام، ريبة العمال من إمكان مفاجأتهم بأي قرار يتضمن تصفية أو خصخصة الشركة، بما يهدد مصير عمالها. التحرك الاستباقي لعمال غزل المحلة يعد نقلة حقيقية في وعيهم، وانتقال مطالب الحركة العمالية من تلك المباشرة الخاصة بالأجور وشروط العمل، إلى التدخل في السياسات والقرارات. تحرك العمال على هذا النحو يعد الأول من نوعه ضد سياسات السوق، فرغم الغضب المكتوم الذي سببته قرارات التكيف الهيكلي والخصخصة منذ بداية تطبيقها في مطلع التسعينيات، إلا أن العمال لم يمتلكوا ساعتها مبادرة التحرك ضدها، وظهرت فحسب تحركات لاحقة على بيع بعض الشركات، احتجاجاً على الآثار التي سببتها، من تسريح للعمال وتدنٍّ لشروط العمل.
توقيت الوقفة الاحتجاجية أيضاً يحمل بعداً هاماً. فقد نظم العمال وقفتهم قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر الحزب الوطني الحاكم الذي يحتفي بالإنجازات المزعومة ويدعي مراعاة البعد الاجتماعي... وغيرها من شعارات الحزب الحاكم التي تريد إقناع العمال بعكس ما يعيشونه كل يوم. كما أن هذا الاحتجاج هو الأول منذ السادس من نيسان / أبريل الماضي الذي شهد منعاً قسرياً لإضراب العمال في المحلة، وقمعاً استثنائياً لانتفاضة المدينة وصل لحد إطلاق الرصاص على الأهالي وسقوط قتلى. تصوّر البعض ساعتها أن حركة العمال في الشركة قد تمت السيطرة عليها. إلا أن الوقفة الأخيرة تكشف أن الحركة العمالية ما زالت قادرة على تقديم المفاجآت، وخاصة في عاصمة الطبقة العاملة، المحلة. لقد استخدم الأمن الوسائل نفسها تقريباً التي استخدمها في السادس من نيسان لمنع العمال من التجمع: تجمّعت أعداد كبيرة من أفراد الأمن بثياب مدنية داخل الشركة، حظر تحرك العمال بين العنابر وحصلت مراقبة مشددة للنشطاء منهم، استدعى أمن الدولة العشرات من العمال قبل موعد الوقفة وهددوا بوجود بيانات أمنية تخصهم، وأخيراً صرف العمال من الشركة مبكراً لتفويت موعد التظاهر المتفق عليه بعد انتهاء موعد العمل، مع تجهيز حافلات لنقل العمال فوراً بعيداً عن الشركة. هذه الإجراءات كانت كافية لمنع الوقفة أو تأجيل موعدها، ولكن التجربة السابقة جعلت العمال جاهزين بإجراءات بديلة في مواجهة القمع الأمني، وكذلك أكثر إصراراً، فنجحوا في تنفيذ اعتصامهم من الساعة الثانية والنصف وحتى الرابعة عصراً، ثم أنهوه دون أن تقع أي حادثة عنف. نجح العمال وفشل الأمن، فمر اليوم سلمياً بعكس السادس من نيسان عندما نجح الأمن في منع الإضراب، فأشعل غضباً أكبر في المدينة وتحولت الأحداث سريعاً إلى العنف.
ويمكن اعتبار هذا النجاح دليل براءة للمتهمين في الأحداث السابقة الذين ما زالوا يحاكمون حتى اليوم بتهمة العنف وإتلاف المال العام والاعتداء على رجال الأمن، إذ بين التحرك الأخير أن المسؤول الأول عن أحداث السادس من نيسان هم الذين منعوا إضراب العمال. فهؤلاء الأخيرون كانوا مثالاً للنظام، والتدخل الأمني فقط هو ما كان يصنع الفوضى.
وأكدت وقفة عمال المحلة مجدداً على الشوط الذي قطعته العاملات في طريق قيادة الحركة. كادت الوقفة أن تجهض عندما قررت الإدارة والأمن صرف العمال مبكراً ونقلهم فوراً من الشركة بالحافلات المعدة من أجل ذلك، وأصبح تجمع العمال شبه مستحيل. عاملات الملابس الجاهزة بالشركة هن من أنقذن الموقف. فرغم الحصار الأمني، تجمع العشرات منهن خارج الشركة بعد صرفهن مبكراً، وأخذن يرددن الهتافات والنداءات للعمال في الداخل، مؤكدات أن الوقفة قائمة. وبدلاً من انصراف العمال، توجهوا إلى الساحة التي كان مقرراً أن يتجمّعوا بها وأنجزوا المتفق عليه. وهذا نفسه حدث في السادس من كانون الأول / ديسمبر 2006، عندما تجمعت العاملات في الصباح وأخذن يرددن هتافهن الذي بات شهيراً: «الرجالة فين؟ الستات أهُمْ!».
هكذا تمكنت العاملات في غزل المحلة من تقديم نموذج فريد لنضال المرأة، ليس عبر مقولات «المشاركة» و«التمكين»، بل عبر المبادرة المباشرة واستلام زمام القيادة وإنقاذ الموقف، ليؤكدن أن قضية المرأة ليست أبداً قضية النخب والشرائح العليا من المجتمع. نقطة أخرى أوضحها عمال غزل المحلة بوقفتهم، وهي المزاعم التي تروجها الحكومة دائماً عن تسييس الحركة العمالية، بمعنى توظيفها من جانب القوى السياسية لأهداف حزبية. هذا الخلط المريب بين تسييس الحركة وتحزيبها كشفه عمال غزل المحلة عندما نفذوا احتجاجاً رافعين مطالب ضد سياسة السوق والخصخصة التي تتبعها الدولة، دون تدخل من أي حزب أو قوة سياسية. وعندما يطالب العمال بوقف سياسات الخصخصة ويكتشفون تأثير سياسات الدولة على حياتهم ومستقبلهم، فإنهم يقدمون درجة من الوعي والتسييس الذاتي أرقى كثيراً من مزاعم الدولة، ويشرحون بوضوح لمن يريد أن يفهم الفارق الكبير بين الطابع السياسي للحركة العمالية والهيمنة السياسية عليها.
* صحافي مصري