سعدالله مزرعاني *مؤتمر «ثقافة السلام» وحوار الأديان الذي انعقد في نيويورك، وفي كنف الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لم يكن حدثاً قائماً بذاته، أو كان مبادرة منفصلة ليس لها ما قبلها وما بعدها. فالمعروف أن قيادة المملكة السعودية ممثلة بالملك عبد الله شخصياً، هي التي أطلقت المبادرة، وهي التي تولّت عملية التحضير وإدارة الحوار ومتابعة النتائج. أما نصيب الأمم المتحدة فكان في استضافة المؤتمر، وفي شكليات الدعوة. ولقد كانت الاستضافة مهمة، لأن الجمعية العمومية للأمم المتحدة هي أعلى منبر دولي وأكبر هذه المنابر على الإطلاق. أما الشكليات أيضاً، فلا تقل أهمية، لأن حضور إسرائيل استدعى (حتى الآن!) وسيطاً دولياً، لكي لا تضطر قيادة المملكة لأن تتولى هي الدعوة مباشرة.
قلنا إن هذه المبادرة لم تكن معزولة، بسبب أنها في الواقع، حلقة في سلسلة متواصلة من الاتصالات واللقاءات والمؤتمرات والقمم... التي وضعت لها الإدارة الأميركية أهدافها وشعاراتها، وخصوصاً مع انطلاق الغزو الأميركي للعراق في نيسان عام 2003، وبشكل أخص بعد بداية تعثر مسيرة الغزو وأهدافه في العراق وخارجه («الشرق الأوسط الكبير»)، ابتداءً من مطالع عام 2004، نتيجة تصاعد المقاومة في العراق ضد القوات الغازية.
نشير إلى ذلك التعثر الأميركي لأنه كان عاملاً انعطافياً في مسار تعامل إدارة الرئيس الأميركي مع جملة مسائل مهمة، منها العلاقة مع الأنظمة الحليفة تقليدياً للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وفي المقدمة منها السعودية. ونذكّر بأن تقرير الكونغرس بعد تفجيرات 11 أيلول 2001 تحدث في حوالى أربعين صفحة منه، عن مصادر التطرف القائمة في أساس النظام المعتمد في المملكة. لقد شُطبت هذه الصفحات في ما أعلن من نتائج التقرير، أما الاستنتاجات عن منابع التطرف في النظام السعودي (السياسي والديني والتعليمي...) فلم تسقط من الحسابات. وتعرّض بنتيجة ذلك، في حينه، نظام المملكة وقادتها لضغوط عديدة، منها ما يتصل ليس فقط بينابيع «الإرهاب»، بل أيضاً بتمويله.
اتخذت إدارة بوش مواقف سلبية من النظام والقيادة السعوديين. وحاولت هذه الإدارة إدراج ضرورات التغيير في نظام المملكة في سياق دعاوى نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، كهدف آخر لسياسة إدارة بوش. إذ إن هذه قد قررت أخيراً، وكما أشار الرئيس الأميركي نفسه، وخصوصاً كما كررت وزيرة خارجيته (وقبل ذلك مستشارته للأمن القومي) السيدة كوندوليزا رايس، «إجراء مصالحة بين قيم أميركا ومصالحها (الديموقراطية)، فلا تحصل الثانية على حساب الأولى، كما كان يحدث سابقاً!»...
إخفاقات واشنطن في العراق دفعت نحو إعادة النظر في عدد من الشعارات الطموحة. وهكذا عادت إدارة بوش إلى بناء «محور الاعتدال العربي»، متخلية طبعاً عن مزاعمها الشعاراتية بشأن الديموقراطية. وبالمقابل، فقد استحثت أنظمة دول «الاعتدال» (السعودية ومصر والأردن... خصوصاً)، على دور أنشط وأفعل في مواجهة «الإرهاب». وكان لقيادة المملكة نصيب كبير في هذه المهمة. فبعدما أدخلت تعديلات على بعض أنظمة التعليم والإكراه السلوكي والتمويل السعودية، انخرطت قيادة المملكة بنشاط في تسويق السياسات الأميركية. وكان في طليعة هذه السياسات تحقيق أحد أبرز أهداف الغزو الأميركي للعراق في نطاق «الشرق الأوسط الكبير»، وهو بناء نظام علاقات في المنطقة مختلف كلياً عن النظام السابق، وخصوصاً في ما يتعلق بالصراع وعناوينه وأطرافه. وقد استدعى هذا الأمر بناء «ثقافة» جديدة لتسويق العناوين الجديدة والأهداف الجديدة والأشكال الجديدة التي تروّج لها الإدارة الأميركية وتحاول فرضها في المنطقة وعليها، بوسائل القوة والغزو وبمزاعم نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان!
لم تكن مبادرة الأمير عبد الله (آنذاك كان ولياً للعهد) خارج هذا السياق: قمة بيروت في أيلول عام 2002، التي قُدّم فيها عرض عربي سخي وشامل (ودائماً من طرف واحد!) يقول بالتطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل! طبعاً، رفضت إسرائيل المبادرة. لقد حصلت على موقف مبدئي، عربي، شامل، بالموافقة على التطبيع، أما الانسحاب فأمر آخر! هذا فضلاً عن أنها كانت تطمع بالمزيد بعدما أطلق بوش يد رئيس حكوماتها شارون، حتى أقصى الإجرام، في عملية تدمير وتصفية للمقومات المادية والسياسية والمعنوية للشعب الفلسطيني.
تعود إذاً جذور «ثقافة السلام» إلى تلك المرحلة الاستباقية عام 2002، وإلى قيام «محور الاعتدال العربي»، وإلى استبدال سياسة مواجهة المغتصب والمحتل والمعتدي بـ«الحرب على الإرهاب»، وإلى محاولة إدماج إسرائيل في محور «الاعتدال» ضمنياً على الأقل، حتى تتهيأ الظروف المناسبة لخطوة أكبر وأخطر، بحجم قمة الأمم المتحدة التي جمعت قيادتي المملكة السعودية وإسرائيل (و63 دولة أخرى، عربية وأجنبية) في همّ وهاجس مشتركين: بناء «ثقافة السلام»، في المنطقة وفي العالم!
في مجرى هذه العملية المتواصلة، نفذت قيادة المملكة كل ما هو مطلوب منها من واشنطن، وبشكل اضطرّها إلى الخروج على تقاليد عملها في الدبلوماسية والعلاقات. فلقد انتقلت قيادة المملكة إلى المواجهة بدل العمل الخلفي في الكواليس، وانتقلت إلى تصدر الصراع بدل استخدام الآخرين لهذه المهمة. وكان لبنان، ولا يزال، إحدى الساحات التي شهدت ذلك التحول السعودي، وعلى نحو سافر، سياسي وديني ومذهبي وأمني ومالي... وكما لم يحدث في أي ساحة أخرى، تقريباً!
ولعل من أبرز الأسباب التي تدفع إلى متابعة لبنانية للنشاط السعودي هو هذا الأمر، أي مدى تأثيره على الوضع اللبناني: في امتداد صراع إقليمي لن ينتهي أبداً، لا بإزاحة الجمهوريين عن السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، ولا بشبه إقرار للمعاهدة الأمنية العراقية ـــ الأميركية من جانب السلطات العراقية.
ويلتقي مع هذا التوجه «القتالي» السعودي، وفي منتصف الطريق على الأقل، توجه جزء أساسي من قوى الأكثرية اللبنانية. فهذا الجزء قد ارتبط كلياً بالرهان على الدور الأميركي. وهو قد بنى سياساته على أساس استمرار اضطلاع واشنطن بدور حاسم في المنطقة، وبدور شبه مباشر في لبنان.
طبعاً، لقد حصلت تطورات عديدة لغير مصلحة هذا الرهان. وقد كرّس ذلك «اتفاق الدوحة» في أيار الماضي، وهو اتفاق أعقب تطورات في المنطقة وفي لبنان (وخصوصاً أحداث 7 أيار) أدت بدورها إلى إنهاء شبه التفرد والوصاية الأميركيين في لبنان.
يحاول البعض الآن (زيارة النائبين جنبلاط ومروان حمادة إلى واشنطن) المكابرة بشأن الدور الأميركي، والحصول على ضمانات بعدم إحداث تحوّل كبير في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال لبنان (لاحظوا دائماً أن لبنان يختصر بفريق!). ولقد أطلق مروان حمادة تطمينات مفعمة بالعاطفة والثقة والرجاء (!) بأن «لبنان يحتل عند الأميركيين وعند الإدارة القائمة والمقبلة مكانة خاصة...».
كان جنبلاط قد أعرب مراراً عن خيبته من الدور الأميركي. والآن تجري محاولات حثيثة لتطمينه إلى ما هو عكس ذلك، لكي لا يذهب بعيداً في خيبته. تلك هي مهمة حمادة. لكن المهمة تتعدى هذا الأمر إلى مثابرة على نوع من «الثقافة»، هي «ثقافة السلام» مع إسرائيل، و«ثقافة العداء» لخصوم المشروع الأميركي ولإسرائيل في المنطقة. ولم تكن الحملة على العماد ميشال عون وعلى زيارة الوزير زياد بارود إلى دمشق، إلا من قبيل تعزيز وترسيخ «ثقافة» أن المفاهيم في المنطقة حيال الصراع وأسبابه وأطرافه، لم تعد كما كانت في المرحلة «الخشبية» السابقة!
إذا كان البعض قد نال ما يريده فعلاً من الاطمئنان في واشنطن، فهذا يجب ألا ينطبق على اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة: فمعنى ذلك أن الصراع والتوتر سيستمران في بلدنا، في محاولة جديدة لاستخدام لبنان في ترميم المشروع الأميركي، ومعه محاولة تعويم بعض المصالح الإقليمية والمحلية!
* كاتب وسياسي لبناني