أنسي الحاجعنصريّة
للسكارى بفوز الديموقراطي السيّد أوباما: تحت الولاية الديموقراطية قصفت أميركا هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة الذريّة، وهاجمت كوريا، ونظّمت، بواسطة السيناتور ماكارثي، حملة اضطهاد الشيوعيين ومَن اشتُبه مجرّد اشتباه بأنه شيوعي. وتحت جناح الحزب الديموقراطي، وفي عهد رئاسة المعبود الآخر جون كينيدي، جرى غزو كوبا ثم حصارها، وفي ظل خليفته جونسون ـــــ الذي يتخيّل البعض ضلعاً له في اغتياله ـــــ بدأت أميركا حرب فيتنام، وأيام السيّد كلينتون المحبوب جدّاً قُصفت بلغراد ثم بغداد، فضلاً عن غضّ النظر الأميركي عن ذبح مليون أفريقي من قبيلة توتسي في رواندا ربيع 1994.
ممّا يذكّرنا بأفضال حكومات حزب العمل في إسرائيل الذي كان يعتبره اليساريون العرب أقل دمويّة وأكثر تقدمية من الليكود، والذي من مآثره، بالإضافة إلى الحروب، مجزرة قانا.
خارج كونه أسود حقّق بفوزه حلماً للسود السود ولسائر السود من البيض، وعدا ردّ الفعل على بوش، لا أرى أيّ منطق لهذا الابتهاج العربي والإسلامي والعالم ثالثي وحتّى الأوروبي بانتصار باراك أوباما. ولا أرى في كلامه ولا في مواقفه عموماً ما يزكّي هذه الموجة الساذجة من التأييد الجماهيري. وأرى، بالعكس، أن احتمالات الخيبة به أكبر من احتمالات وفائه بالآمال.
فضلاً عن أن المبالغة في الابتهاج بانتصار أسود على اعتبار أنه ضحيّة التمييز هو بدوره تمييز، وتمييز مَنْ لم يَشْبع بعد من التمييز. عكس تمييز البيض، فقد بدأت عنصريّة هؤلاء تسلك منحدر الانحلال منذ عقود، وباتت عنصريّتهم، لحسن حظّ أعدائهم، عنصريّة سابقة.

ما طوته الخديعة
أيّ زمن هو ذاك الذي، على ما يقال، سينشرُ ما طوته الخديعة؟ والزمن هو تارة مطيّة الخديعة وطوراً شكلها الحيادي. ومَنْ يحدّد معنى الخديعة؟ أهو الضغينة من الدهر، والناقم مخلوق بطبعه بومةً لا يرضيه شيء؟ أم هو «اكتشاف» ضحيّة ما أنّها ضحيّة؟ ومَن يحدّد الفرق بين الضحيّة البريئة والشخص المتألّم في كبريائه فيبدو كأنه معتدى عليه وهو مجرّد جريح من جرحى الطَّمَع؟
لا ينشر الزمن خفايا إلا ليطمس حقائق. وما الحقائق المعلنة غير رُفات، وفي السياسة والسلطة، رفات غير مؤكّد لجسد قد لا يكون لأحد.

صدور خَفيّة
طيور تمشي في الهواء عريضة كالطواويس، باهظة كالجبال، تُنسيكَ غلظتها أنها مجنّحة، وطيور تلوح أنحف من الغيم الأبيض، تكاد لا تُرى، ومع هذا، حتّى إذا نامت في أقفاصها، لا تغيب أجنحتها عن البال.
حاملو الشعلة لا شيء يدلّ عليهم. صدورهم الملتهبة خَفيَّة. حياتهم اليوميّة تَخْدَع الآخرين فيحسبونهم مثْلهم. المسكون لا يبدو مسكوناً مع أنه دائماً مسكون، لأنّ تجليّاته تأتيه وهو وحيد. لا مكان هنا للاستعراض. النافخ ريشه متصنّع وفي الغالب تافه. المنخطف لا يُباري أحداً ولا يتباهى فهو مُضنىً، وعندما يقول، عندما يحطّ جناحيه على شريط كهربائه ليحترق، يفعل ذلك في صميم الوحدة. الشاعر بيتٌ مهجور طيلة الأيام ما عدا حين يصيرُ كتاباتِه. هنا يتحوّل المخلوق اليومي كائناً أسطوريّاً. والذين يعايشونه ويعجنونه كلّ ساعة هم في الحقيقة لا يعرفون عنه شيئاً.

منسيُّ الكلامِ حتى ليبدو للناظر مَجْهَلَة، منسيُّ السكوتِ حين يُمسكه الكلام، وفي خارجهما، عند برزخ الجنّة والنار، برعمٌ نائم في ملايين سنيه.

الشاعر طائرٌ يترك بصماته على المحلّ الأعلى في الإنسان، وكلّما مرّت بها الريح أنتجتها من جديد. وحيث يَشرب قليلاً يسقي كثيراً. وينابيعه تحرقه ويطفئ بها حريق الآخرين، ولا يُلقي علينا من جلجلته إلا خَلاصَها، وكلّما قاربناه كإنسان يوميّ زادنا بُعداً عن ناره، لأن الوحش الشعري، بينما يمعن في افتراس صاحبه، يُشَفِّفُهُ كشخصٍ يوميّ فينحجب إلّا حنانه، ويُخفض وهجه كشَفَقٍ يجعل الشمسَ في قبضةِ العين، وإنْ غضبَ أو ثار حطّم نفسه.
لا أحد يعرف الإنسان في الشاعر ولن يعرف أحدٌ الشاعر في الإنسان. قد يُعْرَف شعرُه، ويبقى هو مجهولاً، وشرطُه هو نفسه: حتّى لو عرف قَدَره، أن يَجْهل قَدْرَهُ ويحسب جناحيه، بل أجنحته جميعاً، نقصاً أو عاهة.
وتلك الوحدة، وردة القلب، إن لم يقتلعها كلّما دارت أفلاكه، تيبس وتموت. اقتلعْها كلّما دَلَقْتَ نارك، اقتلعْها وَدَعْها مع جرف نارك تذهب إلى خصبها، فهي أكرم من حبّة القمح الشهيرة تلك، التي قيل عنها، والقصد هو عنك، إنّها إنْ لم تقع في التراب وتَمُتْ فإنّها لا تحيا.
وردة روحك، دم الأحياء، تَرَف الموتى.

«إنجيل شخصي»
من وحي كتاب عقل العويط الجديد «إنجيل شخصي»: مرحى بالكتابة الشعرية غير اللاهثة، المتراصّة، المتلاحقة السطور، حيث يستعيد النزول إلى السطر مكانه. مرحى لهذا التقشّف، وذلك السخاء، صرنا نراهما أندر من الياقوت.
على الهامش أيضاً (هامشٍ في ظاهره مَتْن في فحواه): الشعر هو ما حين تطالعه دون أن يقال لك هو شعر، تُحسّه يَهْدر فيك هدير الشعر. لا النزول وراء كلّ كلمة أو كلمتين إلى السطر يؤمّن هذا الانطباع ولا الوزن ولا القافية، ولا الزخرف ولا «العاطفة». للبياض وظيفة أساسيّة قلّما أحسنَّا استعمالها (وأشملُ نفسي بهذا الانتقاد). لم يذهب لوتريامون إلا قليلاً إلى السطر في «أناشيد مالدورور» ومع هذا، ورغم طغيان السرد، يمتلئ الصدر بالعواصف وتهتف الجوارح: يا لروعة هذا الهائل! كذلك نثر رمبو. ونثر بودلير. ونثر برتران، وسان جون برس، وشار، وبروتون، وأراغون. اللؤلؤ يعشق الاختباء في بطانة الأصداف، والكنوز مدسوسة في الخبايا.
يخطو عقل العويط في ديوانه الجديد خطوة أسلوبيّة ناضجة، ويتصفّى من تردّدات كانت تعوق جموحه، ولا يزال بحاجة إلى مزيد من هذا التصفّي. إلى جنونٍ لا يدري بنفسه، يُهدي وردة روحه دون طويل «مناغشة»، يقفز قفزاته دون مرايا، أو لا يقفز ولكنْ دون مرايا أيضاً، لا دون رقابة الوعي فحسب بل دون جلابيب الإنشاء، فتنصبّ اللغة على التجربة والتجربة على لغتها انصباب البداهة الصارخة، بعري «السقوط الحرّ لا التأنّي»، كما يقول.
«طفلٌ سأنجبه في أحد الأيّام يوزّع تفّاح الجنّة لا ندمَ خطيئته». كثيرة هي الالتماعات في هذا الفضاء الوجداني الحميم، التماعات تَفْتَح، وخَلْفَها فضاءٌ آخر، ترسم عليه أطوارك أنت وأحلامك. تلك واحدةٌ من أيادي الشعر.

■ جواب أوديب
ما هي وردة روح الشاعر، بل وردة روح أيّ امرئ يسحبها من جوانحه ويهديها إلى السؤال؟
هي جواب أوديب. جواب أوديب القاتل البريء على السفانكس الوحش قاطع الحياة. الشاعر هو هذه الكلمة التي تُلاشي الوحشة وتَصْرع الوحش، وإنّها قوّتك الوحيدة أيّها الشاعر: معجزة العاجز التي لا قَبْلها ولا بَعْدها.


بحرٌ متحجّب

تحمرّ السماء فتهبّ الريح. تتفرّع ضفائر الحرير الأبيض في الأفق اللازوردي فيستسلم البحر إلى عَذْب النسيم. غير أنّ بحرنا لا يَحْسر شراشفه كما في شمال الأرض. لَكُنّا شاهدنا ركبتيه. بَحْرُنا يَهيج ولا يخلع عذاره. يَخضُّ عَسَله بلا كَلَل. دولابه لا يصل ولا يتوقّف. بحرٌ أقرب إلى الذقن من اليد، يكاد يقيم معنا في الشوارع فَرْطَ ما يرفض أن يبتعد، ومع هذا يتحاشى تلبية الدعوة إلى المائدة.
غريبٌ أليف زاهدٌ متودّد، على شاطئ يستوطن الهجرة ويغسلّ مع كل موجة ذاكرتَهُ الدهريّة.


عابرات

يجب أن لا نخلط بين ظلم رجلٍ متوحّش لامرأةٍ وضيق صدره من غبائها.
■ ■ ■
أكبر معركة تخوضها هي صراعك ضد تصنّعك، ضدّ ثقالتك أنت.
■ ■ ■
لو لم يعطِ عبد الوهاب دفعاً لمقلّدي أغنياته المقلِّدة.
لو لم يعطِ الرحبانيان روحاً لمقلّدي ألحانهما التي ضاربا فيها على الفولكلور.
ثمّة أشياء لا يصلح فيها التجديد، أو ما يسمّونه الخَلْق.
الموسيقى ـــــ أو بالأحرى الغناء ـــــ كالطقوس الدينيّة، كالطبيعة، لا تُمسُّ إلّا بأيدي آلهة.
■ ■ ■
نظرةٌ تجد فوراً نقطة الضعف فيك مهما كنتَ مغلّفاً، وتخترقها كالسهم.
■ ■ ■
العين تَشتدّ حين يلين القلب، والقلب يكون شديداً حين العين طريّة.