في دول شرق آسيا أنت في ضيافة أناس يتميزون بلطف وتهذيب كبيرين، تايلاند تُسمى بـ«أرض الابتسامة»، غنية بمدنها الجميلة، وأسواقها، وغاباتها، ومعالمها السياحية الغريبة على عاداتنا، والذائقة الكلاسيكية
جلنار واكيم
تقررت الرحلة هذه المرة عن طريق الصدفة. فكانت الوجهة في البداية لاتينية، تبدأ في كوبا وتنتهي في المكسيك. ولكن، جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وتغيرت الوجهة لنرسو في آسيا، وتحديداً في تايلاند. بدأت مفاجآت هذه الرحلة في السفارة. اتصلت للاستعلام عن المدة التي احتاج إليها للحصول على تأشيرة الدخول. أجابتني موظفة بمنتهى الهدوء واللطف: «48 ساعة». 48 ساعة؟ أحتاج إلى 48 يوماً عادة للحصول على تأشيرة. قلت لها، مرة أخرى، إنني أحمل جواز السفر اللبناني، ولم أعتد قط حسن المعاملة في السفارات. فأجابتني بتهذيب آسيوي مرة أخرى: «48 ساعة. وأهلا بكم في تايلاند».
هكذا، بعد مرور 48 ساعة، كنا في الطائرة. وبدل الوصول إلى بلاد المايا، كنت في طريقي إلى بلاد الابتسامة كما تُسمى تايلاند.
في الطائرة نفسها، كان من المفترض أن تستمر الرحلة 11 ساعة دون توقف من باريس إلى بانكوك، لكن بعد نصف ساعة سمعنا صراخ طفل مريض كان يعاني وجعاً في معدته وصداعاً في رأسه.
طلب مدير طاقم الطائرة «المساعدة من أحدهم» فوقف طبيب وفحص الصبي، وتبيّن أنه مصاب بفيروس خطير، ولكم أن تتوقعوا ما أنتجته مخيلاتنا فور سماع هذه العبارة... خفنا أن يتفشى «الفيروس الخطير» بيننا، هل هو إنفلونزا الطيور؟
صوت مدير الطاقم أيقظنا، كان يُعلم الركاب بأن الطائرة ستتوقف في فيينّا «لأن حالة الطفل طارئة»، وقد حضرت إلى المدرج سيارة إسعاف نقلت الطفل، لتستكمل طائرتنا رحلتها.
من فيينا انطلقنا مجدداً إلى بانكوك. نسيت المرض وإنفلونزا الطيور، وبدأت أحلم من جديد بأرض السيام.
الوصول إلى بانكوك كالدخول إلى «غرفة سونا». فبعد برد باريس، تستقبلك تايلاند بالرطوبة والحر. انتقلنا إلى قلب العاصمة. مدينة تعج بالزحمة والعجقة. أضواء وناس في كل مكان. باختصار، مدينة آسيوية بامتياز. ووسط هذه الزحمة، أسواق تايلاند في كل مكان. هنا سوق يفتح عند السادسة صباحاً، وآخر يفتح من الثالثة ليلاً حتى السادسة صباحاً. نحن في مدينة لا تنام أبداً. من الأسواق الأرضية انتقلنا إلى السوق العائم، إنه أحد أجمل الأسواق في العالم. في الزورق يتنقل المرء ليشتري حاجاته من الزوارق الأخرى. مأكولات وملابس وأغراض منزلية، كل زورق هو محل تجاري مختلف عن الآخر. وقد تحول هذا السوق إلى موقع سياحي. اليوم، لم يعد التايلانديون يشترون أغراضهم منه، ولكن السلطات التايلاندية حرصت على المحافظة على هذا المكان كما كان.
أجمل ما في بانكوك هو تداخل المعالم الدينية القديمة بالجانب المعاصر للمدينة. في كل زاوية معبد بوذي، الهدوء والسلام الداخلي الذي يتميز به أبناء البلاد، يفصح عن ثقافة خاصة بهذا الشعب.
أينما اتجهنا في بانكوك، كان صوت الـ«تايلنجيات» يستوقفنا بنغمتهن الطويلة: «ماساج»؟ الكلمة وحدها كانت كافية لتخديرنا، وإلى إدخالنا إلى دكاكين التدليك، وسرعان ما أدمنّا التدليك، تدليك للرجلين وتدليك للرأس، وثالث بالأعشاب... هنا يمكنك أن تستمتع بلائحة من التدليكات المتنوعة.
بعد مرور ثلاثة أيام، كان لا بد من الهروب من زحمة العاصمة، لنتوجه إلى العواصم الملكية الشمالية. بداية ذهبنا إلى أيوتايا حيث يرقد تمثال لبوذا نائماً، وثانٍ منحوت في قلب جذع الشجرة. ثم توجهنا في القطار إلى شانغ ماي.
ثمن البطاقة ثلاثون دولاراً، ومدة الرحلة 14 ساعة أمضيناها ليلاً في أسرّة القطار الذي يعود إلى الحرب العالمية الأولى، استقللنا القطار العاشرة مساءً. وكانت كل الأسرّة مكتظة بالتايلانديين وبالأوروبيين. ثم دخل أحد الموظفين ليفرش لنا أسرّتنا. وبدل أن نمضي ليلتنا في غرفة فندق أمضيناها في سرير هزاز في القطار. شانغ ماي مختلفة تماماً عن بانكوك. فالمدينة أكثر تنظيماً وأصغر حجماً، معابدها رائعة الجمال وعمرها 8 قرون. في هذه المدينة يحلو ركوب الدراجة النارية.
حين خرجنا من المدينة إلى الغابة، اتجهنا بداية إلى مدرسة الفيلة، شاهدنا فيلة ترقص على عزف الموسيقى، وأخرى تلعب كرة السلة أو «تتقمص» شخصيات نجوم كرة القدم. أما الأجمل فكان مشاهدة الفيلة الرسامة.
قد يبدو الأمر نكتة. ولكنه حقيقي. وقفت فيلة ثلاثة أمام خشبات الرسم، تحمل ريشتها بخراطيمها، بعد عشرين دقيقة رسم كل فيل لوحة مختلفة. الرسم الأول مزهرية مع ورود حمراء، والثاني لفيل يقف إلى جانب الزهور، أما الثالث فرسم لفيلين. سيطر الذهول الكبير على الجمهور، وكثرت الأسئلة عن كيفية تدريب هذه الفيلة على الرسم المتقن.
على ظهر الفيل تنزهنا في الأدغال، وفي الطريق كانت تستوقفنا محطات لشراء الموز وقصب السكر نطعمها للفيل. كلمة السر كانت «بون»، كلما سمعها الفيل كان يرفع خرطومه ليتناول طعامه.
الرحلة التالية، كانت إلى شانغ راي. في الصباح الباكر انتقلنا إلى المثلث الذهبي. وهذا المكان عبارة عن حدود يرسمها النهر لثلاث دول هي تايلاند، وميانمار أو (برما) ولاوس. أما الذهب هنا فهو الأفيون الذي كان يُهرّب من دولة إلى أخرى عبر النهر.
ركبنا المركب لنزور الحدود الثلاثة. وعندما وصلنا إلى لاوس، نزل الجميع. أما نحن فكنا في حيرة بسبب جواز سفرنا اللبناني. قال لنا المرشد إنه بإمكاننا أن نحصل على تأشيرة مباشرة. وهكذا نزلنا إلى لاوس. المتاجر في كل مكان، هنا يباع الويسكي الذي خُمّرت فية أفاع صغيرة أو أعضاء النمر. أهل البلاد يؤمنون بأن أكل هذه الحيوانات القوية يعطي قوة لآكلها.
غادرنا «شانغ ماي» بعد مرور أسبوع على وجودنا هناك. وبدل أن نركب القطار كما كنت أرغب، اضطررنا إلى ركوب الطائرة. كانت تايلاند تعج بالإضرابات التي وصلت يومها إلى حد العصيان المدني. عصيان مدني؟ كلما زرت مدينة وقعت فيها مشكلة. وقد انضم إلى إضراب المدينة العاملون في قطاع سكة الحديد مطالبين باستقالة رئيس الحكومة.


كأنه مشهد لبناني

لم أشعر بالغربة، كان المشهد التايلاندي يشبه إلى حد كبير المشهد اللبناني خلال تظاهرات المعارضة. سنيورة آخر كان في انتظاري في تايلاند، سنيورة بشرته صفراء وعيناه آسيويتان. يا ربي! هل تخرّج الاثنان من المدرسة ذاتها؟ كنت أردد في سري. رحت أتابع التطورات السياسية التايلاندية عن كثب. أما المفاجأة فقد تمثلت باستقالة رئيس الوزراء بسبب الشهداء الذين سقطوا خلال التظاهرات المناهضة له.