ترعرع في بغداد الستينيات التي تحمل بصمات جواد سليم وفائق حسن، ثم حمل المدينة ومضى إلى روما حيث كانت ولادته الثانية. الإيروسيّة هي الطابع الملازم لتجربته التي تجمع بين شمس بابل وغيوم المتوسط، فوق لوحة واحدة... صارت هي الوطن

خليل صويلح
بعد طول عناء، عثر جبر علوان على بيت في دمشق. بيت قديم في مركز المدينة، بالقرب من أشهر مطعم كباب في الشارع «مطعم لواء إسكندرون»، وعلى بعد أمتار من «مقهى الروضة» المكان المفضّل للعراقيّين. التشكيلي المهاجر، وجد في «أهل الشام» الألفة والطمأنينة والصداقة. هكذا صار له بيتان، الأول في روما التي استقر فيها منذ أوائل السبعينيات، والثاني في دمشق... أما بغداد التي لم يعد إليها بعد الاحتلال، فهي مجرد ذكريات جميلة بالنسبة إليه، «لا أريد أن تهتز ذاكرتي بمشهد مغاير».
ولادته في قرية بالقرب من مدينة بابل الأثرية، قادت خطواته الأولى إلى الرسم والشغف باللون. هناك بين البساتين والأحجار والتماثيل، كان يرسم تخطيطات أولية لما كان يشاهده. ويتذكر أنّ سائحة أجنبية مرت بالقرب منه، وأُعجبت بما كان يرسمه، فأهداها اللوحة «أحسستُ بقيمة ما أرسم، لعلها أول جائزة أحصل عليها في حياتي». كان قدر الطفل جبر علوان الذي ولد في عائلة كبيرة لأب مزارع أن يتجه إلى الفن بتشجيع معلّميه في المدرسة الابتدائية والمتوسطة. هكذا انتسب إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد. كانت بغداد الستينيات تضج بحياة ثقافية مزدهرة وخصبة بالمواهب «لا شك في أنّ جواد سليم وفائق حسن كانا بوصلتي إلى ورشة إبداعية وضعتني على المسار الصحيح في معرفة معنى أن تكون رساماً».
في روما، ستهتز الصورة التي كوّنها عن المدينة، فهي ليست أفلام فيلليني وبازوليني، وليست أعمال مايكل أنجلو أو كتب ألبرتو مورافيا، كما كان يتصور قبل مجيئه إليها. إنّها متحف كبير لكل الفنون: «هناك اكتشفت أنّني مادة خام تحتاج إلى صقل كامل، وعين أخرى تختزن المرئيات بشغف». اللغة ثم النساء علمتا جبر علوان معنىً آخر لفن العيش. صار يذهب إلى المسارح، وينصت بأذن مختلفة إلى الموسيقى. الموسيقى التي دخلت عمق لوحته كلون ورغبة وخط، سترافقه على الدوام، لعل من يقف أمام لوحاته سيلتقط ذلك الهارموني الخفي في الضربات اللونية المتفجّرة، وانشطار الأحمر على سطح القماشة بما يشبه اللذة القصوى.
جبر علوان الصاخب في حياته اليومية، تعلّم كيف يختبر البهجة اللونية من عمق المأساة، من خلال إزاحة كل ما يعوق الجمال وتقشير الحياة على مهل، إلى أن يصل إلى اللب. وهو هنا صورة للفرح الإنساني «الدراما في الرسم أسهل، لكن الصعوبة تكمن في اكتشاف الجمال في الكوابيس» يقول جبر علوان.
في مرسمه الدمشقي، كان يضع على الحامل قماشة بيضاء تماماً، فيما تتراكم لوحاته الجديدة على الجدار المجاور. نسأله: هل سبق أن مزقت لوحة لم تُعجبك؟ «على الإطلاق»، ثم يوضح: «حين لا تكتمل لوحة ما، أعيد الرسم مرة أخرى، إلى أن أصل إلى ما أبتغي».
لوحاته فقط تملأ المكان. أما مقتنياته من أعمال الآخرين، فتستقر على جدران مرسمه الذي صار مشهوراً في شارع «فيا جولتي» في قلب روما. جداريات تحتفي بالمرأة على نحو خاص، كأنّ جبر يحاول أن يقتفي أثر امرأة بعينها. وحين تتوه منه في زحام الألوان، يلجأ إلى رسمها مرة أخرى. يقول: «المرأة أساسيّة في لوحتي، إنّها سرّ المخيّلة». يصمت قليلاً قبل أن يشرح فكرته: «أذهب إلى اللوحة بكامل لياقتي، كما لو أنني على موعد مع امرأة فاتنة، فكلتاهما تحقق لي النشوة. لا أستطيع الإمساك بالريشة حين أكون حزيناً».
لم يصل جبر علوان إلى أسلوبه الخاص بسهولة. فالتشكيلي العراقي الذي درس النحت، لم يتخلّص من الكتلة في لوحاته. هناك بُعد نحتي في اللوحة، أو لنقل: مركز ثقل تتناسل منه الأطراف لتكوّن فضاءً لونياً مدهشاً. يتذكّر أنّ نقاداً أوروبيين نبهوه إلى تأثره بفان غوغ مرة، وغويا مرة أخرى: «انكببتُ على دراسة أعمال هذين الفنانين، بحثاً عن عناصر مشتركة قبل أن أصل إلى اللون الشرقي الخالص الذي يميّز تجربتي عن سواها».
من التعبيرية إلى التشخيصيّة المحدثة عبرت لوحة جبر أكثر من برزخ، فخلال نحو خمسين معرضاً أقامها في العقود الثلاثة الماضية، لم يتوقف عن الرسم، ليصل أخيراً إلى المزاوجة بين شمس بابل وغيوم المتوسط على قماشة واحدة: «بعد هذه التجربة الطويلة، بدأت أشعر بالسأم، وقد رفضت إقامة أكثر من معرض في هذه الفترة. لا أريد أن أستهلك طاقتي من أجل المعارض. كذلك، لا أرغب بفقدان النشوة أثناء الرسم».
في معرضه الأخير في غاليري «آرت هاوس» في دمشق، سنلحظ تحولاً في مناخات جبر علوان لجهة الإيقاع اللوني. هنا تدخل الآلات الموسيقية في عمق اللوحة، فتعكس مرايا شخوصه المثقلة بالعزلة والحزن الشفيف. نساء جبر علوان شهوانيات على الدوام. لكنهن في إشارة ما أو تهويمة عابرة، يتفتّحن على كمية من الشجن والأسى، مثل سؤال لم يكتمل، لعله قلق الرسّام وهو يسعى من دون هوادة إلى نبش الداخل واختبار الألم الخفي.
مع مواطنه الشاعر سعدي يوسف، خاض تجربة مثيرة في «إيروتيكا». كان لكل واحد منهما نصه التعبيري وأدواته. الأول يكتب أشواقه الحسيّة، والثاني يؤجج اللون في الجسد، فجاء العمل متكاملاً لجهة المكاشفة والتوق إلى الرغبة. ينفي جبر وجود لوحة كاملة. يقول: «اللوحة لا تكتمل أبداً، وإلا كنت توقفت عن الرسم» قبل أن يستدرك موضحاً أن «تكرار الموضوع لا يعني أن تشبه لوحة أخرى، هناك بؤرة لحظية هي مَن يتحكم بمسارات اللوحة واقتراحاتها اللونية. لا أفكر بالأحمر أو الأسود، الألوان تتشكل من تلقاء نفسها».
ويشير إلى تجربة مهمة أخرى تؤكد توقه إلى مقارعة حقول إبداعية أخرى. هكذا أنجز مشروعاً مع المخرج جواد الأسدي في عرض «نساء السكسفون» المقتبس عن «بيت برناردا ألبا» للوركا: «أنا أؤمن بالتجاور بين الفنون، وتالياً لم يكن للوحاتي علاقة مباشرة بالعرض المسرحي، ربما كنت مفتوناً بمناخات لوركا التراجيدية، فرسمت بمعزل عن مقترح جواد الأسدي المسرحي».
التجوال بين المدن الأوروبية علّمه اكتشاف الشرق من منظور آخر. صحيح أنّ روما جعلت منه مواطناً «طليانياً»، لكن المدن الأخرى «تجدد حريتي، وتخفف عني وطأة الملل... الأمكنة تفرض مزاجها عليّ كرسام، فأنا حين أرسم في دمشق أتمتع بمزاج مختلف، في ما لو كنت في روما أو القاهرة مثلاً... لوحتي وطني».


5 تواريخ

1948
الولادة قرب بابل في العراق

1972
مغادرة بغداد لدراسة الفنون الجميلة في روما

1975
أول معرض فردي في «غاليري لاجادا» في روما

1985
جائزة بلدية روما للبحث في اللون

2008
أعماله الأخيرة في «غاليري آرت هاوس» في دمشق