فداء عيتانيوكأن البلاد تعيش حالاً من التناغم الداخلي والتداول السلمي للسلطة، وإدارة شؤون الناس وتنظيمها، حتى يطلع علينا من هبّ ودبّ ليطالب بالتخلي عن سلاح المقاومة، مستعيداً الخطاب العنصري الطائفي والفاشي لعائلات أقل ما يُقال في وصفها أنها هي التي أسست للحرب وأجرمت فيها وأنتجت العنف سبيلاً لحل المشكلات السياسية بدل البرلمانات والانتخابات. وكأن الدفاع عن النفس بوجه إسرائيل، هو وحده ما يقف اليوم في سبيل بناء دولة، وكأن الدفاع عن الأرض هو ما يؤخر انتظام عمل المجلس النيابي، ويعوق مجلس الوزراء عن اتخاذ القرارات بتطوير الحياة في هذه البلاد. وكأنه لا عصابات من اللصوص تسرق وتنهب وتتشارك في حصد أموال المواطنين، وتغتني فوق الخيال على حساب مواطن يعيش الكفاف. وكأن هناك آلية للمراقبة والمحاسبة، حتى يصبح الحائل الوحيد أمام استتباب الأمر للحكم والسلطات هو وجود المقاومة.
وكأن الشيخ أمين الجميل، الذي لا يُذكر اسمه إلا مرادفاً للانهيارات المالية والاجتماعية والأمنية، نسي أن ثمة قراراً رقمه 1701 تجاوز القرار 1559، حتى يعيد إحياء القرار الأخير ويطالب به في خطاب ذكرى الكتائب.
ولو التزمت الكتائب فقط بما تحدث عنه الجميل من فك ارتباط بالخارج والتخلي عن السلاح غير الشرعي وامتناعها عن التوسط لتوطين الأثرياء الفلسطينيين، لما مرت هذه البلاد بحرب أهلية طاحنة، شاءت لها الإيديولوجيا اللبنانية المزورة أن تُكنى بـ«حرب الآخرين على أرضنا».
فضلاً عن أن إعادة صياغة التاريخ، كما يرغب الشيخ أمين ويحب، لا تستقيم مع الواقع، الذي شهد صراعات ونزاعات طائفية كان للكتائب الدور الأكبر فيها، دفاعاً عن نظام متهالك يمثّل مصالح اليمين المسيحي، في مقابل حرمان نسبي ومتفاوت تعرضت له الفئات الأخرى في البلاد.
ولا يحمل شيء في هذه البلاد حقداً وكراهية وعنصرية، بقدر خطابات الكتائب في ذكرى الحزب. خطابات تتلطى خلف الشهادة لتطلق النار على المواطنين اللبنانيين الآخرين، «مع تمييزنا بين اللبناني وغير اللبناني» كما جاء في خطاب الجميل.
وإن احتج قارئ بأن هذا الخطاب هو التزام بقرارات دولية، فليذكرنا أين كانت النيات الحسنة والمجتمع الدولي حين كانت حروب الإبادة تُشن، والقرارات الدولية معلقة على مشجب المتاجرة الداخلية والبحث عن المساعدات العربية، والتسوّل في أقبية وزارة الدفاع الأميركية.
أما وأن إعادة إحياء الحديث عن سحب السلاح قد امتزجت بالمطالبة باستقلال وسيادة عبثيين، وسلام موهوم، وغُطِّيَت كل هذه المعطيات بذكرى شهداء وأسمائهم، لتحلّ القداسة على كل هذه المطالب، وتمنع من تسول له نفسه من العبث بقدسية الكلام والخطاب، فإن كوابيس مرعبة صدرت عن الخطاب، أقلّ ما يُقال فيها أنها أصل الكتائب، أي «الفلانجيست»، أو مجرمي الحرب الإسبانية الذين أثّروا بمؤسس الحزب الراحل بيار الجميل الجَدّ.
لا يحسب كلام الكتائب في حساب الانتخابات، إلا من باب المزايدة على خصمها العوني وحليفها اللدود القواتي، وستكون مبارزة طويلة في العنصرية، في «اللبنانوية»، تلك التي لا يزال يتخيل البعض أنها من إنتاج ماروني صرف، بينما تكاد تنقضي مئة عام على تأسيس لبنان الانفصالي عن إمبراطورية حكمت المنطقة أكثر من ألف عام. إمبراطورية أدّى انحطاطها إلى الكثير من الظواهر الشاذة. وللمراجعة، يمكن إنعام النظر في الكتائب وأشياعها من حزب «التنظيم» إلى «الأحرار» الذين انتجوا «نموراً» تأكل لحم البشر في الحرب الأهلية، إلى سعيد عقل، وصولاً إلى «القوات اللبنانية»، التي لا يمكن الجدال ولا المزايدة على فاشيتها وعنصريتها.
من أين ندخل إلى وطن اقتنع فاشيّوه بأنهم علة وجوده وقديسوه وشياطينه؟ وبأي منطق يمكن أن نحاجج من أنشئ لبنان من أجلهم في أننا مواطنون أيضاً، وأننا بشر متساوون؟ وبأي عين ينظرون في المرآة وهم يعيشون على إعانات خارجية ويتلقون صباح مساء إرشادات في الانتخابات والديموقراطية؟ وكيف نصرف مفاعيل السيادة والحرية والاستقلال حين يستعرض رئيس الجمهورية جيشاً هزيلاً ضعيفاً في يوم الاستقلال الوطني؟ وأية دولة نتحدث عنها وقد نخر السوس الرأس والقلب والأطراف؟
أنذهب إلى إيران لنسلح الجيش الضعيف إذاً، أم ننعزل في «اللبنانوية»؟ أم ننبش من الأرشيف الخطابات الفاشية؟ أم نتبارز مع المعارضة في ميدان «المسيحاوية»، التي أصبح لها على شبكة «فايس بوك» صفحات لـ«الصليبيين المشرقيين»؟
لن يكون أسوأ من الخطابات المستعادة من أرشيفات اليمين، التي لا ترى في الخطط الاقتصادية الاجتماعية إلا سبلاً مبسطة لتحويل المواطنين إلى متسولين، سوى خطابات وبرامج المعارضة، التي ستصر على المزايدة على أنها هي من أعادت إلى المسيحيين حقوقهم المهدورة، والمسلوبة من طوائف أخرى.
وسيّان، أكانت الطائفية آتية من المسيحيين أم من المسلمين، فإن إعادة إنتاج الطائفية بصورتها الفظة العنصرية لن تؤدي إلا إلى العودة إلى التناحر.