نزار صاغيّة *في 31 /10 / 2008، استقال القاضي رالف رياشي من مجلس القضاء الأعلى، بعدما تغيّب أعضاء عديدون عن الجلسة المخصّصة لإقرار مشروع التعيينات والمناقلات (المعروفة بالتشكيلات) القضائيّة، مما أدّى إلى تعطيلها. وقد برّر استقالته باقتضاب بعجزه عن استصدار المشروع المذكور، مما يبقي مئة وخمسة قضاة (أي ما يزيد عن خُمس القضاة) عاطلين عن العمل (ثلثهم منذ أربع سنوات)، في وقت تئنّ فيه قصور العدل تحت وطأة ملفّاتها. ومن يعرف حرص رالف رياشي على سمعة القضاء وتحفّظه عن أيّ إثارة إعلاميّة قد تمسّه (وهو أمر عبّر عنه مراراً، آخرها في الجمعيّة العموميّة المنعقدة في 18/7/2008)، يعلم أنّ استقالته كانت، بالنسبة إليه، ذات طابع «اضطراريّ» بكلّ ما للكلمة من معنى، وأنّها تفيد بأنه استنفد مجمل الوسائل لتجاوز ما يعيق صدور التّشكيلات. وتالياً، فهي تطرح، بذاتها وبما استتبعها من أصداء، تساؤلات ثلاثة، تتصل بمدى ملاءمة التنظيم القضائيّ الراهن ولكن أيضاً بمكانة القضاء اجتماعيّاً، وهي تساؤلات نوردها في سياق عرضها أدناه:
التساؤل الأول: مدى قدرة مجلس القضاء الأعلى في تنظيمه الحالي على تمثيل القضاة وضمان استقلاليّتهم:
إذا صحّ أنّ الاستقالة تضمّنت لوماً مبطّناً لكلّ من عطل مرسوم التّشكيلات القضائيّة منذ سنوات (ومن ضمنهم رئيس الجمهورية السابق)، فمن البيّن أنّ سببها المباشر اتصل بتصرفات معزوّة لمعظم أعضاء مجلس القضاء الأعلى. وتالياً، من البديهي أن تطرح الاستقالة جديّاً على بساط البحث مدى قدرة هذا المجلس، بتنظيمه الحالي، على ضمان مصالح القضاء واستقلاليّته.
فإذا أناطت الدّول التي يستلهم لبنان تشريعاتها (وعلى رأسها فرنسا)، بمجلس مستقلّ ينتخب القضاة غالبيّة أعضائه أوسع الصلاحيّات في ما يتصل بشؤون القضاة ومساراتهم المهنية (ترقية، محاسبة...)، حفظاً لاستقلاليّتهم وحسن تمثيلهم، فإن موقف النظام اللبنانيّ جاء ملتبساً في هذا الصدد. فبعكس حماسته الفائقة لمجلس مماثل إلى حد اعتباره الضامن لاستقلاليّة القضاء والناطق الأوحد باسمه، أولى هذا النظام السلطة التنفيذية تعيين غالبية أعضائه (ثمانية من عشرة) وعملياً كل أعضائه، خلافاً لما نص عليه اتفاق الطائف. وإذا سعت السلطة الحاكمة غالباً، حجباً للوعي في هذه المسألة، تعيين عدد من القضاة المجمع على رفعتهم ونبلهم داخل المجلس، فمن الطبيعي أن تمثّل خيبة هؤلاء، عند الإعلان عنها، علامة استفهام مدوّية بشأن مدى توافر شروط ضامنة لاستقلالية هذا المجلس، تماماً كما نستشعر إزاء استقالة القاضي رالف رياشي.
والواقع أن لهذه المسألة تاريخاً ننساه أحياناً في خطاب الإصلاح القضائي: فإذا نص الطائف، تحت عنوان استقلالية القضاء، على وجوب اعتماد «مبدأ» انتخاب «عدد» من أعضاء المجلس من القضاة أنفسهم، تريث المشرع حتى 2001 (أي طوال 12عاماً) للقيام بخطواته الأولى، واليتيمة، وشبه الصورية في هذا المجال، وذلك حين أعطى القضاة حق انتخاب عضوين (عضوين فقط!) من أصل عشرة، مصوراً ذلك بأنه خطوة هائلة إلى الأمام! لا بل أضاف المشرع قيوداً إضافية في تحديد شروط الترشيح والانتخاب، مفادها أنّ العضوين ينتخبان من بين رؤساء غرف التمييز (أي ممّن هم في قمة الهرم) من جانب مستشاري محكمة التمييز حصراً (أي ممن يتربع في السفوح العليا لهذا الهرم).
لا بل أكثر من ذلك، سرعان ما رسا عرف مفاده حصر الانتخاب بمن ينتمون إلى طوائف غير ممثلة بما لها من حصص داخل المجلس، مما حوّل الانتخابات غالباً إلى تزكية «إلزاميّة»، ومكّن الحكومة أحياناً من تعيين هذين العضوين أيضاً من دون ترك أيّ هامش، مهما قل شأنه، للقضاة. فهذا ما يحدث مثلاً كلما كان المركزان الشاغران مخصصين لشخصين منسوبين إلى طائفتين محددتين ولم يكن بين رؤساء غرف التمييز إلا شخصان بهذه الصفة، كما إذا تُرك للانتخاب مركزا الدروز والكاثوليك فقط. وتالياً، جاز بالطبع القول إن النظام ـــ «وهو خير الماكرين» ـــ نجح، هنا أيضاً، وفي أعلى هرم القضاء، في تلبّس الطائفية، للالتفاف حول مبدأ الانتخاب، وعملياً في نقضه!
ولا يبدو الأمر أحسن حالاً بشأن الصلاحيات المنوطة بمجلس القضاء الأعلى، وهي الصلاحيات التي يفترض أن تضمن استقلالية القضاء. فبعدما كان يضع الوزير مشروع التشكيلات بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى، على أن يحسم مجلس الوزراء الخلاف بينهما في حال وجوده، أعطى قانون 2001 مجلس القضاء الأعلى صلاحيّة الحسم بقرار يصدره بأكثرية سبعة من أعضائه. وإذا صور الأمر على أنه مكسب كبير، جاءت أحداث السنتين السابقتين، وتعطيل نصاب جلسة 31/10/2008، لتدحضه بالكامل، ليس فقط بعدما عطل رئيس الجمهورية مشروع التشكيلات برفضه توقيع المرسوم المتصل به، بل أيضاً لأن توافر أكثرية حاسمة قدرها سبعة من عشرة بوجه السلطة في مجلس تتولى هي، أي السلطة، مباشرة تعيين ثمانية من أعضائه، هو أمر يصعب تحقيقه!
وتالياً، وعلى ضوء الملاحظات المبيّنة أعلاه، ومجمل الوقائع الحاصلة منذ 2001 بهذا الشأن، وإذا وضعنا جانباً هالات التبجيل والتمنيات المجافية للواقع، فإنه يتحتم على أي قارئ أن يستنتج أن مجلس القضاء الأعلى، في وضعيته القانونية الراهنة، ينتقص إلى ضمانات تخوّله تمثيل هموم القضاء أو التعبير عنها ومن باب أولى ضمان استقلاليّة القضاء. لا بل يُخشى في ظلّ الوضع الراهن، ومع انحطاط الطبقة الحاكمة، أن يتحول المجلس أحياناً إلى ستار تتخفى وراءه إرادة السلطة الحاكمة، فيتحول من جهاز يستمد سبب وجوده من استقلاليّة القضاء، إلى جهاز من شأنه، بما له من صلاحيات، أن يهدّد أكثر من أي جهاز آخر، هذه الاستقلاليّة.
التساؤل الثاني: مدى اهتمام المجتمع بإقصاء خُمس القضاة عن المحاكم؟
أمّا التساؤل الثاني الذي ترشح عنه الاستقالة فهو يتّصل بمكانة القضاء اجتماعيّاً، وتحديداً بمدى اهتمام المجتمع بإقصاء خُمس القضاة (20% منهم) عن المحاكم، وهو تساؤل يتأتى طبعاً عن أسباب الاستقالة ولكن أيضاً عن الأصداء التي رشحت عنها.
فإذا شهدت التشكيلات القضائية غالباً تجاذبات سياسية وقضائية على خلفية المحاصصة وتقاسم النفوذ، وإذا حامت غالباً حولها شكوك بشأن استخدامها كأداة لإغراء البعض ولترهيب آخرين، فإنّ المسألة ترتدي هنا أمراً أخطر بكثير مفاده إقصاء خُمس القضاة، مع ما يحملون من أمل وطاقة، عن المحاكم، وبالنتيجة حرمانهم من كسب الخبرة والتطور المهني، وذلك طوال سنوات دون أي أفق. فهذا الأمر يُعدّ دون ريب خسارة كبرى، خسارة تبلغ مجموع العدالة التي يؤمل أن يؤمنها هؤلاء الشباب، خسارة تتجاوز أضعافاً أيّ مكسب يمكن أن يحقّقه أيّ فريق سياسيّ إذا أبقى التشكيلات على حالها أو إذا نجح في تعديلها.
فمن ترى يرفس، في ظل هذا الوضع، مشروع التشكيلات على هذا الوجه، في أجواء تلفها الضبابية والغموض؟ ولماذا، أمن أجل إبقاء قاض في منصب معين أو تعيين قاض في منصب آخر؟ وهل حقّاً يستحيل في بلد المساومات، إيجاد صيغة توافقيّة بهذا الشأن، تضمن على الأقل تولّي هؤلاء الشباب مهماتهم، حصراً للضرر؟ وألا يمثّل تنصّل الطبقة السياسية ولامبالاتها إزاء ما يحدث، وكأنما الأمر مسألة قضائية بحتة، إشارة واضحة إلى نظرتها الدونية للقضاء ولدوره الاجتماعي، هذا إذا لم نستشف منه نية واضحة في تعطيله على غرار المجلس الدستوري؟
وألا يبدو الفرقاء السياسيون في مواقفهم تلك كأنهم يغلبون أي مكسب صغير يقويهم في الانتخابات المقبلة، فيبذلون في سبيله ما قدروا من جهود، على أي مكسب اجتماعي، مهما بلغ شأنه، إذا كان من العصي استثماره سياسياً؟
والواقع أنّ هذه اللامبالاة وجدت صدى شديد البلاغة في اتفاق الدوحة. ففي موازاة الهوس الذي لقيته التقسيمات الانتخابيّة في إحدى دوائر العاصمة، فإن اتفاق الدوحة خلا من أي إشارة إلى التشكيلات القضائية أو المجلس الدستوري المعطلين منذ سنوات. بل أدهى من ذلك، إذا رفض الجميع استخدام القوة، فإن الحل برأيهم في حال نشوب الخلاف يكون عبر الحوار، من دون أن يخطر ببال أحد أن يصار إلى الاحتكام إلى القضاء!
وإن هذه اللامبالاة لقيت تجلياً بليغاً آخر في ردود الفعل إزاء استقالة رياشي. فإذا وضعنا جانباً بعض تصريحات أدلى بها وزير العدل أو نقيب المحامين، وهي تصريحات بقيت حتى الآن للأسف من دون متابعة، لم تسجل أي مواقف ذات شأن في الطبقة السياسية. ولقياس هذه اللامبالاة، حسبنا مقارنة ما ولّدته من أصداء بالأصداء التي استولدتها قضية صلاحيات نائب رئيس الحكومة التي أثيرت في الوقت نفسه.
ففيما أوردت صحف عدة (منها «الأخبار» و«النهار») خبر استقالة رياشي في صفحاتها الداخلية دون أن تستتبعها بتحقيقات في الأيام التالية، ارتأت الصحف كلها تغطية قضية «الصلاحيات» على صفحاتها الأولى، وتابعتها بشغف من يوم إلى يوم، مستقصية عن أي عبارة قد ينطق بها أي سياسي (وكلهم يتلهف بالواقع لإبداء الرأي) مهما بلغ شأنه في هذا الشأن.
التساؤل الثالث: الصّمت؟ هذا الصمت (صمت القضاة الشباب) الذي لم يعد يحتمل:
أما ثالث التساؤلات التي تدعو إليه الاستقالة فهو: لماذا لزم القضاة وما زالوا، ولا سيما القضاة الشباب المعنيين بالدرجة الأولى بما يجري، الصّمت؟ والجواب الأوليّ الذي قد يسمعه كلّ قاض يرغب بالكلام هو: موجب التحفّظ! هذا الموجب «المطاط في معناه» الذي غالباً ما استخدم ويستخدم لقمع حريّة التّعبير ومعها حريّة التجمّع، وتالياً كسلاح لاستفراد القاضي وإقصائه عن التخاطب مع الرأي العام.
فإذا بدا إصدار بيان الاستقالة على نحو يخرق سبات مجلس القضاء الأعلى ضرورياً، فخرق الصمت هو أيضاً من باب أولى بالنسبة للقضاة الشبّان الذين يحرمون من ممارسة وظائفهم (عفواً، سلطاتهم الدستورية) منذ سنوات. فهل يعقل أن يمنع شخص عن الاحتجاج ضدّ حرمانه من تولي سلطته الدستورية باسم موجب لا يلزمه إلا لأنه يمارس هذه السلطة؟ ثم ألا يمثّّل إقصاؤهم على هذا الوجه إهانة بل تعذيباً، بحيث يكون إلزامهم بالصّمت إزاءه كمن يطلب من ضحيّة الإهانة أو التعذيب ألا تعترض، ألا تصرخ؟
هذا هو الصمت الذي رفضه قضاة مصر لئلا يكونوا شهود زور في تزوير الانتخابات التي تولوا مهمة الإشراف عليها، فكانت إحدى أروع التظاهرات (تظاهرة القضاة) في قلب مصر. وهذا هو الصمت الذي رفضه أحد أروع قضاة لبنان، الرئيس نسيب طربيه (1971)، رافضاً أن يغمض العين عن تشكيلات غالباً ما تحولت بازاراً يستفرد فيه القاضي بهدف استتباعه، فكانت محاضرته الشهيرة التي كلفته الإحالة إلى المجلس التأديبي. وهذا هو الصمت الذي رفضته مجمل الدول الأوروبية حيث باتت جمعيات القضاة أول من يصدر بيانات ضدّ كل ما تراه تدخلاً في استقلالية القضاء، بل أيضاً ضدّ كل ما تراه ظلماً. وهذا هو الصمت الذي أدانته مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلالية القضاة وشرعة «بنغالور» العالمية لأخلاقيات القضاة التي كرّست صراحة حرية القاضي (السلطة) بالتعبير والتجمع، لتحوّل موجب التحفظ إلى مجرد واجب لياقة.
بل هذا هو الصّمت الذي عبّر قضاة لبنانيّون شبّان عديدون، في مؤتمر انعقد منذ شهر (10ـــ11 تشرين الأول) في بيروت بعنوان: «حين تجمع القضاة»، بحضور قضاة مصر، عن ضيق صدرهم منه وتوقهم إلى التجمّع والتّخاطب مع المجتمع بما يعزّز استقلاليّة القاضي إزاء السلطة الحاكمة ولكن أيضاً، وقبل كل شيء، إزاء أي هرمية قد تتهدده داخل القضاء! والواقع، أنّ رفع الصّوت في هذه القضية ليس فقط حقّاً، إنما بات اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، واجباً لا يعلوه أيّ واجب، حرصاً على ما بقي من العدالة ونقضاً لإرادات التّعطيل.
لعلّ هذه الأصوات «الواعدة» تجد طريقها إلى الملأ ومن بعده إلى أقواس المحاكم من دون قمع.
* باحث قانوني ومحامٍ