تغيب وسائل التدفئة عن سجن بعلبك الذي تصل الحرارة شتاءً فيه إلى ما دون 8 تحت الصفر. ويتوه نزلاؤه في سحابة دخان السجائر في غرف تنعدم فيها التهوية. أمّا نصيب السجناء من برامج الإصلاح، فهو كنصيبهم من التدفئة والتهوية
بعلبك ــ عبادة كسر
يقبع «سجن بعلبك» داخل السرايا الحكومية وسط سوق المدينة، تدخل من الباب العريض للسرايا، وتتجه إلى أقصى اليسار. تحت الدرج تتقلص المسافات وتضيق الأبواب، كأنك تقصد مخزناً لأغراض بالية غير صالحة للاستخدام. إنه مدخل سجن بعلبك. تستقبلك باحة صغيرة فيها خزانان حديديان ومكتب للحرس. تصل إلى عالم آخر محاصر بضجيج سوق الخُضَر المحاذي له، وقرقعة الأحذية على سلالم دائرة النفوس التي تتسلّل باكراً إلى 80 سجيناً تعلمهم بأن يوماً جديداً قد بدأ.
تتجه يميناً فيصطدم النظر بالشبك الحديدي الذي يلامس السقف، ثم تدخل 4 صناديق مقفلة، هي غرف السجن التي لا تزيد مساحة أكبر واحدة منها على 30 متراً مربعاً. في الأول، الانحناء ضروري لتخطي بابه الحديدي. تنعدم الرؤية شيئاً فشيئاً كلما ارتفع نظرك عن أرض الغرفة، وحدها أقدام المساجين تستطيع التفلّت من ضباب السجائر الذي يبحث عن مفر له في غرفة لا منافذ فيها ولا تهوية، وتنبعث منها رائحة غريبة تتشارك في صنعها الرطوبة ودخان السجائر ورائحة ناتجة من الازدحام. أبو علي، أحد السجناء السابقين تحدث لـ«الأخبار»: «عانيت دائماً التهاباً في عيني. كنت أنتظر لحظة خروجي إلى الممر. أصبت بالربو، وكذلك بعض من مكثوا معي في الغرفة».
تفتقر غرف سجن بعلبك إلى التجهيزات الأوّلية، فيبتكر المساجين ديكوراً خاصاً. يحتفظون بعلب السجائر الفارغة ويحولونها إلى خزائن لأمتعتهم، ويفرشون الأرض بـ«اليطأ» وهو عبارة عن أغطية صوفية ترصف فوق بعضها بعضاً. مستوعبات النفايات تتوسط الممر، وتتسرب منها سوائل يعرف الذباب طريقه إليها.
وصفت بعض التقارير «سجن بعلبك» بأنه من أفضل السجون في لبنان، من ناحية الوضع الإنساني لنزلائه، لكنها أغفلت جملة من المساوئ، ومنها قصة «المدفأة الكهربائية» التي تزور غرف السجن الأربع مناوبةً، مع العلم بأن الغرفة الرابعة هي في الواقع تجمّع لـ3 غرف إفرادية. وعادة ما تتعرض الأسلاك الكهربائية في السجن للذوبان إذا توافرت أكثر من مدفأة، مما يضطر إدارة السجن إلى استخدام واحدة فقط، أو الاستغناء عنها أحياناً، مما يدفع السجناء إلى الاعتماد على أغطية الصوف، في منطقة تصل فيها الحرارة شتاءً إلى أدنى من 8 درجات تحت الصفر. ويشرح سجين سابق: «طالبنا كثيراً بتدفئة مركزية تفادياً لأعطال المدفأة الكهربائية التي لا تنفع مع طقس قارس وبارد»، ويضيف: «حصلنا على جهاز تلفزيون بعد الكثير من المطالبات والإضرابات». مياه الاستحمام موجودة، ويذهب المساجين إلى «البخورة» (مكان الاستحمام) مرة واحدة أسبوعياً، أما الطبابة، فيؤمّنها ممرض يداوم أكثر من 10 ساعات يومياً في السجن، ويحضر من منزله المجاور خارج الدوام، في حال حصول أي طارئ.
الطعام الساخن يُحضر بسيارة فولفو قديمة، مكتوب عليها «مطبخ سجن بعلبك». وفي زحمة الناس تترجّل سيدة من السيارة وبين يديها وعاء طبخ معدني رثّ لا يفي بحاجة نزلاء السجن الثمانين، تتسرب منه سوائل المأكولات بين الناس، فترسم خلفها خطاً يستدل من خلاله على مدخل «سجن بعلبك». «بعّدو عن طريقي. الأكل سخن». بهذه العبارة تشق السيدة طريقها بين روّاد دائرة النفوس في سرايا بعلبك، حيث لا يزال السجن حبيس الطبقة الأولى منها بعد انتقال فصيلة الدرك إلى المبنى الجديد. ورغم أن الوجبات تأتي ساخنة، فإن السجناء قلما يعتبرونها طعاماً للبشر. يقول سجين سابق: «الطعام لا يؤكل، وكان معظم السجناء يعتمدون على الطعام الوافد من ذويهم»، ويضيف: «تزور اللحوم السجن مطهوّة مع الخضر مرتين في الأسبوع».


غياب التأهيل

يقول مسؤول أمني إن نزلاء سجن بعلبك يقضون أيامهم من دون أي نشاطات تذكر «باستثناء ما يقوم به بعض السجناء من أشغال يدوية بمبادرات فردية». كذلك فإن إدارة السجن لا تطبق فيه أي برامج إصلاحية أو تأهيلية تمكّن السجين من العودة إلى الاندماج كفرد فاعل في المجتمع، وخاصة من الناحية الاقتصادية. إذ لا يتدرّب السجناء، وخاصة ممن كانوا عاطلين من العمل قبل دخولهم السجن، على ممارسة أي حرفة تقيهم العودة إلى ممارسة أعمال مخالفة للقانون.