بيار أبي صعبلو أن المقالة عينها حطّت، مطبوعةً على الكمبيوتر ومن دون توقيع، على مكتب أي مسؤول في التحرير يحترم نفسه، ويحبّ مهنته ويتقن أصولها وقواعدها، ويغار على المؤسسة الإعلاميّة التي يعمل فيها، لجاء حكمه مبرماً، وجوابه قاطعاً! ولذيّل النسخة التي بين يديه بالملاحظة التالية: «كثير من الإنشائيّة والشاعريّة، كلام عام يفتقر إلى الوقائع الملموسة والمعلومات المفيدة، ويفتقد حدّاً أدنى من المسافة النقديّة مع الحدث». ولافترض صديقنا المحرّر، أن الكاتب شاب متحمّس (أو شابة متحمسة)، متمكّن(ة) من لغته(ا) وثقافته(ا) العامة، لكن في حاجة إلى مزيد من الصقل والتدريب للارتماء في أحضان هذه المهنة الصارمة الأصول والقواعد والتقاليد، وختم ملاحظته كالآتي: «قبل النشر، المرجوّ إعادة الصياغة مع تعزيز الجانب العملي (من؟ ماذا؟ كيف؟)، والتخفيف من المدح والتفخيم والإطناب».
لكن، ما العمل والمقالة المشار إليها ليست سوى افتتاحيّة تتصدّر، بالحرف الكبير، إحدى أعرق الصحف اللبنانيّة وأقدمها؟ وما العمل إذا كان كاتبها هو عميد صحافيي لبنان، وبين أبرز الإعلاميين العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟
نعم. الأستاذ الكبير غسان تويني في افتتاحيّة «النهار» البيروتيّة يوم أمس، كتب ينقل أجواء افتتاح «المتحف الإسلامي» الذي حضره في الدوحة. والحدث بحدّ ذاته على قدر من الأهميّة، ما يجعل القارئ يرتمي على الافتتاحيّة ـــــ خصوصاً أن كاتبها تاريخ حافل في رجل ـــــ طالباً الإحاطة بأهميّة المشروع ومحتوياته وموقعه من سائر المتاحف الإسلاميّة في العالم، وباحثاً عن استقراء المناسبة وخلفياتها وأبعادها، وتحليل دلالاتها الجيو ـــــ سياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة على مستوى الخليج، والعالم العربي بشكل عام.
لكنّ ما سيخرج به هذا القارئ الخائب، لا يتجاوز السرد والوصف، الغنائيّة والتفخيم، إضافة إلى لطشتين أو ثلاث في السياسة (بالمعنى المحلّي للكلمة)، وكلام عن حوار الأديان، وعظة تتعلّق بلبنان ودوره الرسولي في هذا المجال. طبعاً، الأستاذ تويني حرّ في ما يكتب، ولنا أن نقرأ ونتعلّم منه. لكن الخيبة تأتي دائماً على قدر الاحترام والتوقعات الكثيرة، فليعذرنا أستاذنا على هذه الجسارة.
ما يهمّنا في الحقيقة هو التطرّق إلى راهن الصحافة اللبنانيّة (والعربيّة) بشكل عام، وانزلاقها من الرسوليّة (التي ربما مرّ عليها الزمن أيضاً) إلى الخدمات، ومن الإعلام والنقد والدفاع عن مشروع فكري وسياسي، إلى التحريض الفئوي والتلاعب على العصبيات، وفي كل الأحوال طغيان الارتزاق والمجاملات والعلاقات العامة على كلّ ما عداها. تلك «السلطة الرابعة» في لبنان، تقف اليوم عند لحظة ضياع الروح وفقدان المعايير، وشحّ المخيّلة، وغياب الابتكار، وانحسار الجرأة والإبداع والتجديد. وكل ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن مستقبل تلك الصحافة وآفاق تجديدها، علماً أن النقد في هذا المجال لا يستثني أحداً، ولا حتّى المنبر الذي ينشر هذا الكلام.
ما أبعدنا اليوم عن أسطورة الصحافي التنويري الذي يزعزع بمقالته العروش، يطلق التجارب ويؤسس لنهضة مقبلة ويخترع الحريّة. النخبة اللبنانيّة في سوادها الأعظم تحوّلت، مع السنوات، طالبة رزق في الدول العربيّة الغنيّة. وهذا الواقع الجديد انعكس على الوعي الجماعي، فقولب السلوك والممارسات والأذواق والقيم... وصولاً إلى الاختصاصات الجامعيّة. وأهل الإعلام هم، حكماً، جزء من هذا الواقع وتلك النخبة.
لقد صار من الطبيعي أن نرى أي صاحب مؤسسة إعلاميّة، أو صحافي مبتدئ، يكيل المدائح لأهل المال والجاه والسلطة، من دون أن يخشى نقد أقرانه أو قرّائه ــ وهذه أخطر مؤشرات الانحطاط ــ أما مشروعه الإعلامي والسياسي والمهني والأخلاقي... فيأتي بعد ذلك.
هل يمكننا إعادة بناء مجتمع متصدّع وديموقراطيّة مريضة، من دون إعادة نظر جذريّة بالإعلام، طبيعة ودوراً؟ بالصحافة المكتوبة على الأقل... بدءاً بمفهوم المقالة الافتتاحيّة وتقنيّاتها ودورها في اللعبة الديموقراطيّة، وصولاً إلى أصغر خبر في صفحة المنوعات؟
لا بدّ لنا من أن ننظر قليلاً إلى أنفسنا في مرآة صفحاتنا، قبل أن نخرج إلى الناس ونواصل أداء دورنا «التقني» بكل ثقة وتعالٍ. قريباً، تعقد جريدة «النهار» مع «الاتحاد العالمي للصحف» منتداها العربي الثالث «للصحافة الحرّة»، وهي مبادرة قيّمة بحدّ ذاتها. لكن الدفاع عن الصحافة الحرّة لا يقتصر على المناسبات كما نعرف جميعاً: لا بدّ من التصدّي الجذري لكل العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة التي تضيّق الخناق على حريّة التعبير. هل يمكننا أن نكتب كلمة حريّة باليد نفسها التي تلوّح لأسياد هذا الزمان؟