يحيى فكري *«بيعملوا فينا إللي بيعمله اليهود مع الفلسطينيين»، هي عبارة ترددت كثيراً خلال الفترة الأخيرة على ألسنة العديد من فقراء مصر، وهم يصفون ما يحدث لهم على يد حكومة مبارك، حيث يُخلوْن قسراً من منازلهم وتُهدم ويُقذف بهم في الصحراء بعيداً عن العاصمة، بتكديس بعضهم في منازل شديدة الضيق شُيدت على مسافات هائلة من مواقع عملهم وأماكن نشاطهم الطبيعية، وإلقاء بعضهم الآخر في مخيمات إيواء تفتقر لأدنى شروط المعيشة الإنسانية، وترك البعض الثالث يفترشون العراء بعيداً عن كل المناطق المأهولة.
الاستنتاج العفوي لفقراء مصر أن ما يحدث لهم اليوم يشبه ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني، هو استنتاج صحيح بمعنى ما، أي إنه «ترانسفير» مصري يحصل بالأساليب القمعية نفسها. لكن ربما تجدر الإشارة إلى أنه يحدث في بعض الحالات بطرق أسوأ مما تفعله إسرائيل. فعمليات التطهير هنا لها طابع طبقي صرف، ومَن تقع عليهم الواقعة هم في أغلبهم من فقراء الحرفيين والعمال اليوميين والباعة الجائلين، أو ممن يصل بهم الفقر إلى احتراف أنشطة غير شرعية كالبلطجة والدعارة وترويج المخدرات، باختصار هم من أشد شرائح المجتمع المصري فقراً، ولا يملكون أي أدوات لتنظيم أنفسهم أو المقاومة. البداية كانت مع مأساة الدويقة، تلك المنطقة الشديدة الفقر التي انهالت أحجار المقطم فوق رؤوس قاطنيها في مطلع تشرين الفائت، فدفنت تحت الأنقاض ما يقرب من 500 منهم (حسب تقديرات الأهالي، أما التقديرات الحكومية فاقتصرت على من انتُشلت جثثهم، وهم 107 ضحايا). وقد فضحت واقعة الدويقة مجدداً بؤس الحياة داخل أحياء القاهرة الفقيرة، أو ما اصطلح على تسميته بالعشوائيات، وبالطبع توجهت سهام النقد للحكومة بسبب إهمالها رغم علمها بالمخاطر القائمة، وتراخيها في توفير بدائل ملائمة لسكان الدويقة وغيرها من المناطق الفقيرة المعرضة للانهيار. وبدلاً من تدارك الموقف والبدء في التخطيط لتنفيذ مساكن آدمية لثمانية ملايين مواطن يعيشون في المقابر أو في أكواخ من الصفيح أو في مخيمات للإيواء ومنازل متهالكة، قرر نظام مبارك قلب الأمر والاستفادة من واقعة الدويقة في تنفيذ مخطط كان قد أعلنه في مطلع الألفية، بإخلاء القاهرة الكبرى من أحزمة الفقر وتوطين سكانها في الصحراء. وفي صباح يوم 18 تشرين الأول / أكتوبر، أطلت علينا الصحف بتصريح لأحد المسؤولين بمحافظة القاهرة يتفاخر فيه بأن المحافظة قامت في اليوم السابق بأكبر عملية إزالة في تاريخها! هكذا بدأ نظام مبارك، متحججاً بما حدث في الدويقة، بحملة واسعة مخطط لها أن تنتهي بتشريد ملايين الفقراء. وحتى كتابة هذه السطور، شُرّد بضعة آلاف منهم. وما زالت الحملة مستمرة، حيث يخلي الأمن السكان قسراً، ويهدم منازل هؤلاء ثم يرحلهم بطرق جبرية. ولم يمر الأمر بالطبع دون مقاومة، حيث اعتصم المئات ممن شُرّدوا أمام مقرات أحيائهم، رافضين الترحيل القسري ومطالبين بتعويضات. وحدثت معارك عدة مع قوات الأمن، انتهت بعشرات المصابين.
وفي بعض المواقع (إسطبل عنتر ـــ منشاة ناصر) اعتصم الأهالي في منازلهم مهددين بتفجير أنفسهم، وحضّروا أعداداً كبيرة من أنابيب الغاز فوق أسطح منازلهم، جاهزة للتفجير عند اقتحام الأمن لها. هذا غير حالة التحفز الحادثة الآن في الكثير من المواقع. فهناك أكثر من مئة منطقة سكنية داخل القاهرة ستُزال طبقاً للمخطط المعلن. وربما ما يجري الآن في إمبابة (أحد أفقر أحياء القاهرة وأكثرها كثافة) ذو دلالة بالغة، حيث يجمع الأهالي تواقيع لتأسيس روابط تضامنية ضد ما أُعلن عنه من خطة «تطوير» (أي إزالة) مناطق واسعة منها (تبلغ مساحتها الإجمالية حوالى 3200 فدان، أي ما يقرب من 14 مليون متر مربع)، وتحويلها إلى مواقع «للجذب الاستثماري»، أي إحلال قصور الأغنياء ومنتجعاتهم الفاخرة محل منازل الفقراء المتهالكة.
هناك بالقطع احتياج إلى التوسع العمراني وخفض الكثافة السكانية لمدينة القاهرة، التي هي واحدة من أكبر مدن العالم كثافة، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق (هي بالتأكيد ليست الأكبر في عدد السكان، بل في الكثافة السكانية أي نسبة عدد السكان إلى المساحة). ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القاهرة الكبرى مقسمة إدارياً إلى خمس مدن: القاهرة، والجيزة، وحلوان، و6 أكتوبر، وشبرا الخيمة. إلا أنها تشكل وحدة جغرافية وسكنية واقتصادية واحدة، وغالباً ما تكون الأرقام الحكومية الخاصة بالقاهرة مخادعة لاقتصارها على مدينة القاهرة وحدها، لا القاهرة الكبرى. فمثلاً في تصنيف قام به البنك الدولي أخيراً، عُدّت القاهرة من حيث عدد السكان رقم 14 على مستوى العالم، حيث يقطنها 12 مليون نسمة ـــ طبقاً للأرقام الحكومية ـــ إلا أن تلك مغالطة واضحة، فعدد سكان القاهرة الكبرى بمدنها الخمس يصل حالياً إلى 18 مليون نسمة. وإذا كان صحيحاً أن التوسع العمراني ضرورة، إلا أن شرط تحقيق ذلك يعني أولاً، وقبل كل شيء، توجيه الاستثمارات وتحقيق طفرة في التنمية الصناعية داخل المناطق الريفية، وخاصة في صعيد مصر، التي ينزح فقراؤها، شبه المعدمين، إلى القاهرة بحثاً عن سبل الرزق. ويعني ثانياً جذب الكثافة السكانية إلى مدن جديدة تقوم على التنمية الصناعية بما يخلق فرصاً للعمل، ويوفر بالتالي سبل العيش للقادمين الجدد. هذا الشرط هو من بديهيات التفكير العلمي، الذي سيستنتجه أي مواطن لو أنه يضع مخططاً لتطوير القاهرة. إلا أن المخطط الحكومي، سواء المعلن عنه منذ سنوات، أو ما يُنفذ حالياً، تجاهل ذلك تماماً وبنى مشروعه على منطق مختلف كلياً، إذ اعتمد على فكرة تفريغ أحياء القاهرة الفقيرة ذات الكثافة العالية، وترحيل سكانها إلى مجمعات سكنية شُيدت في الصحراء تفتقر إلى الخدمات، وليس فيها أي وحدات إنتاجية، ولا تتوافر فيها أي شروط للتنمية، هذا غير التردي الشديد لأنماطها المعمارية من حيث ضيق المساحة وتهالك البناء. ويقوم المخطط من جانب آخر على فكرة هدم المناطق التي تُفرغ وتحويلها إلى مواقع سياحية لتشييد الفنادق والمنتجعات الفاخرة، أي توجيه الكتلة الرئيسية من الاستثمارات الحالية والمستقبلية إلى مجال العقارات الفاخرة على حساب التنمية الصناعية المطلوبة لأي مشروع للتطوير.
والمؤكد أن ما قام به نظام مبارك خلال الأسابيع الأخيرة هو مجرد البداية في خطة شاملة لتخليص القاهرة من أحزمة الفقر، ومنح مساحات واسعة من الأراضي المتميزة لحفنة من المستثمرين العقاريين الوثيقي الصلة بأسرة مبارك لنهبها، بعدما نهبوا كل ما عداها.
والمؤكد أيضاً أن روابط إمبابة التضامنية تلك، لو اتسعت وتحولت إلى حركة ذات شأن، ربما تكون السبيل الوحيد للمقاومة. وبصرف النظر عما سيؤول إليه الوضع الراهن، لكن بلا شك، ستكون مسألة السكن أحد أهم نقاط التفجر في مصر خلال مستقبل ليس ببعيد.
* صحافي مصري