لا يعدّ مشهداً غريباً أن يستردّ موزع الحلويات الشعبية في طرابلس بضاعته التي بقيت دون بيع، وفي بعض الأحيان فسدت وبدا عليها العفن، من أحد الدكاكين أو محال السمانة الصغيرة المنتشرة في أحياء المدينة أو أرياف المناطق المجاورة لها كعكار والمنية، وإعطاء زبونه بضائع جديدة بديلة عنها، من غير تحميله أيّ مبلغ إضافي، أو رفع أسعار الدفعة الجديدة من البضائع لتعويض فرق الخسائر
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
يتساهل موزعو الحلويات الشعبية الرخيصة الثمن في طرابلس (سعر القطعة بين 250 و500 ليرة كحدّ أقصى) مع الباعة الذين يأخذون من بضاعتهم. لكن هذا التساهل، الذي يهدف إلى ترويج بضاعتهم وتسويقها، يطرح دائماً أسئلة تبقى غالباً بلا أجوبة. إذ كيف يعوّض أصحاب هذه المعامل الصغيرة خسائرهم المتكررة؟ وأين يذهبون ببضائعهم التالفة التي يسحبونها من الأسواق؟ وقبل هذا وذاك كيف يصنعون هذه المأكولات؟ وبأيّ مواد أولية؟ ومن يصنعها لهم؟ وهل الشروط الصحية لناحية سلامة المواد الأولية وصلاحيتها ونظافة العاملين متوافرة ولو بحدّ معقول؟ وهل هناك حدّ أدنى من الرقابة تقوم به الجهات المعنية للحؤول دون تكرار مشهد إصابة عشرات المواطنين بحالات تسمّم ووفاة في أكثر من حيّ ومنطقة، كما حصل أخيراً في عكار وطرابلس والضنية؟
بعض أصحاب هذه الورش والمعامل الصغيرة، الذين اشترطوا للتجاوب معنا وعداً منّا بعدم ذكر الأسماء وعدم تصويرهم أو تصوير محالّهم، حيث الحدّ الأدنى من شروط النظافة وضرورات الصحّة العامّة غير موجود فيها، أوضحوا أن مشاكل التسمّم التي يتعرض لها المستهلكون نتيجة تناولهم بعض هذه المأكولات «يتحمل مسؤوليتها فريقان: الأول هو الدولة الغائبة بمؤسساتها الرقابية، لا عن معاقبة المخالفين بل عن توعيتهم وتنبيههم بالدرجة الأولى، لأنه لو كانت هناك جهود حقيقية تبذلها دوائر وزارات الصحّة والاقتصاد والزراعة، وغرفة التجارة والصناعة والزراعة، لكانت أغلب هذه المشاكل غائبة».
أما الفريق الثاني الذي يتحمّل مسؤولية «التسيّب الغذائي» برأي هؤلاء فهم «المستهلكون أنفسهم، إذ يريدون بضاعة جيدة وبأسعار رخيصة، ما يدفع بعض المصنّعين إلى التلاعب بمعايير طبخ الكاتو وغيره من دون نيّة الأذى بالطبع.
فحلوى «الإكلير» المسؤولة عن فضيحة تسمم 126 شخصاً في عكار في عيد الفطر الأخير، والتي مات بسببها ولد في قرية السنديانة مثلاً، تصنع من الطحين والبيض والحليب، فيلجأ البعض إلى استبدال الصنفين الأخيرين بالماء والسكر والبيض الفاسد، وهي تركيبة تساعد في انتشار جرثومة «السلامونيلا» التي أصيب بها المتسمّمون في عكار وطرابلس نهاية أيلول الماضي».
وفيما أشار هؤلاء إلى أن «ارتفاع أسعار المواد الأولية لصنع الكاتو وباقي الحلويات هو السبب في تراجع جودة هذه المأكولات، وخصوصاً الحليب، حيث ارتفع سعر الكيس سعة 25 كيلوغراماً (بالجملة) من 75 ألف ليرة إلى 225 ألف ليرة»، إضافة إلى أن أحداً منهم لم ير «منذ فتحنا محالنا، قبل سنوات، أحداً من مراقبي وزارتي الصحة والاقتصاد أو غيرهما».
وللتدليل على نتيجة ارتباط التسيّب الغذائي بالفساد، يروي لنا أحدهم حادثة يقول إنها حصلت السنة الماضية. «فقد ضبط مراقبون من مصلحتي الاقتصاد والصحة في الشمال محلاً لصنع وبيع الكاتو والحلويات الشعبية في طرابلس، وهو يمارس عمله من دون توفّر الحد الأدنى من شروط السلامة العامة» إلى درجة أنّ الفئران والجرذان كانت تقفز في زوايا المحل (!؟) فعمدوا إلى إقفاله فوراً بالشمع الأحمر. وهذا جيد. إلا أن صاحب المحل توسّط لدى أحد السياسيين الذي ساعده في رفع الأختام عن محله فعاد إليه وكأن شيئاً لم يكن كما يقول.
وبغضّ النظر عن الهدف من رواية هذه القصة، لا يمكن غفران إهمال سلامة الغذاء بحجة أن غيري لم يعاقب، يشير علي هاشم، الذي يملك محلاً لصنع وبيع الكاتو في طرابلس إلى أن «حركة البيع لم تتراجع بعد التسمّم الذي ظهر في عكار وطرابلس، بل هي جيدة هذا الموسم»، ويعلّل هاشم الأمر بأن «ارتفاع أسعار المواد الأولية كالحليب والزبدة والبيض وغيرها دفع عشرات المحالّ إلى توقيف أشغالها، والبقية الباقية منهم إلى زيادة إنتاجهم لتلبية احتياجات السوق التي بقيت على حالها بالطبع».
أمّا جميل الشيخ، الذي يملك وإخوته باتيسري معروفاً في محلة أبي سمراء، فقال إن «ما نشتريه من مواد أولية للتصنيع نختارها بعناية وهي ذات نوعية ممتازة، والشروط القانونية والصحية متوافرة فيها بالكامل، وعلى هذا الأساس نضطر لأن نبيع بضاعتنا أغلى بقليل من سعر السوق (قطعة الكاتو 1250 ليرة) إذ لكل سلعة سعرها».
ولللتدليل على أن زيته ليس عكراً، يقول الشيخ إن «البيض مثلاً لا نستخدمه إلا بعد غسله بالماء وفصل الفاسد عن الجيّد منه، حتى لو اضطررنا إلى دفع مبلغ إضافي. والأمر نفسه ينطبق على الزبدة والطحين وبقية المواد الأولية»، مشيراً إلى أن «حرصنا على نظافة المعمل والناحية الصحية في إنتاجنا، يدفعنا إلى إجراء فحوص مخبرية للعاملين عندنا كل 3 أشهر».
لكن الشيخ رأى أن «الرقابة التي تمارسها وزارتا الصحّة والاقتصاد والبلدية لا تكفي، وإن كانت مطلوبة وينبغي تفعيلها، لأن الرقابة الذاتية تبقى هي الأساس».
ويزيدنا شرحاً بالقول «إذا لم يكن صاحب المعمل يملك وازعاً أخلاقياً، فرقابة الدولة لا تنفع إلا جزئياً، إضافة إلى ضرورة توافر رقابة المستهلكين الذين عليهم دور ينبغي أن يقوموا به لناحية إعطاء ملاحظاتهم لأيّ صاحب محل، عدا عن أن إقبال أو ابتعاد الزبائن عنه يعدّ مؤشراً إلى مدى ثقتهم به من عدمها».