موسى عجمي تبدّلت قلعة الصمود من بلدة عشوائية البناء والتنظيم إلى بلدة عامرة بالشواهق من الأبنية والعمارات، ومليئة بالشواهد من التخطيط والنظام الظاهر. بنت جبيل لم تعد مثال الأزقّة والبيوت المتداخلة، بل هي اليوم وحدات سكنية منفصلة، وبنايات مستقلة ومتباعدة بعضها عن الآخر. مدينة عربية بالفعل، وورشة عمل قائمة بذاتها، إنها خلية نحل من اللبنانيين والسوريين الذين يُعرَفون من تجمعاتهم المكثّفة، ودخولهم محال البيع والشراء جماعات جماعات.
تتسع بنت جبيل في هذه الآونة لتشمل الجوار، فلم يعد هناك من عيترون أو عيناتا أو يارون أو عين إبل، إنها تبتلع المحيط لتكتسح حرمات البلدات المجاورة إلى حد تُمحى معه الحدود، وتذوب الفواصل والحواجز في حرية متناهية، تتعانق معها المنازل والمساكن وحتى قلوب ساكنيها. ولم يعد المواطن يعرف، مع هذا الامتداد العمراني، من أين يحصل على رخصة البناء، ولم تعد بلدية بنت جبيل وحدها هي التي تعطي الرخص أو المسؤولة عن تحريرها، فالجوار كله مسؤول ومختص.
انتشار غريب في المباني، وتبدّل رهيب في معالم مدينة بنت جبيل. وما ساعد على هذا الانتشار، العائدون من بلاد المغترب، والزائرون أرض الجنوب، والمغدقون الأموال الطائلة على شراء الأراضي وإعادة الإعمار، والكل يحاول بناء منزل أو فيلا، والجميع في حالة مجاراة ومساواة في هذا العمل خلافاً لكل ماضٍ أو عهد سالف خلا من كل فكرة في هذا السياق الإعماري المتجدد. وإذا سألت عن سعر الأراضي في بنت جبيل وجوارها، تجد أن دونم الأرض زاد سعره وتضاعف عما كان عليه سابقاً، وأن ما كانت قيمته تساوي عشرين ألف دولار أصبح اليوم يناهز الستين ألفاً وربما المئة.
وإن أردتَ استئجار محل فيها، وعلى الرغم من تزايد البناء، فإنك تواجه بالسعر الخيالي نسبة إلى المعروف والمألوف سالفاً في الماضي القريب، حيث ارتفع إيجار المحل من مئة دولار إلى أربعمئة. وما كان شريطاً شائكاً تحوّل إلى انفتاح على الحياة والحركة، حيث الوديان مأهولة، والتلال مسكونة ومتألّقة بالقرميد والأسوار والأنوار. وما كان ذكرى خاوية بات اليوم واقعاً حيّاً، وقيمة حقيقية تشد القلوب، وتدفع بالأقدام إلى ملامسة التراب الطيّب، وإلى تحسّس أرض الوطن الحبيب.