محمد داوودثلاثة عشر عاماً تمر على استشهاد الدكتور والمفكر الإسلامي فتحي الشقاقي «أبو إبراهيم»، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأمينها العام، عندما أقدمت وحدات مختارة من الموساد على اغتياله، أثناء سيره في إحدى أزقة جزيرة مالطا قادماً من ليبيا. جريمة تندرج في سياق سلسلة من عمليات الاغتيال الجبانة التي نفذتها تلك الوحدات المحترفة والنشطة في العالم لقتل رموز شعبنا الفلسطيني وعلمائه ومقاوميه وأبنائه وتصفيتهم، الذي يتطلع للحرية والاستقلال وكنس الاحتلال، بدءاً من الشهيد الرئيس ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وغسان كنفاني وماجد أبو شرار وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وأبو الهول ومعين بسيسو والشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبو علي مصطفى وعماد مغنية...
والقافلة تسير على درب الشهداء الفلسطينيين والعرب والمسلمين وغيرهم الذين اغتالتهم فرق الموت الإسرائيلية وعناصرها المنتشرة حول العالم. وبهذا الرعيل عبر صيرورة تاريخية ومستمرة من القادة والرموز الذين قضوا نحبهم، ونحن الباقون، «مشاريع الشهادة ننتظر» كما قالها الرئيس الشهيد عرفات.
وللحديث عن حياة الأسطورة الشهيد «الشقاقي» درب من الشوق لا يمكن حصره في هذا المقام الرفيع، فقد تميزت بطابع خاص عنوانها البساطة والتوكل على الذات والإخلاص للدين والوطن، وخاصة بعد رحيل والدته وهو في سن الطفولة، فتعمقت متابعته للقضية الفلسطينية والتخاذل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني، فتأثر بالفكر الناصري، ولكن هزيمة 67 تركت فراغاً شاسعاً في نفسه جعلته يبتكر وسائل جديدة تحطم جدار صمت المرحلة التي اتسمت بالتراجع العربي والدولي تجاه مقاومة، ورفض المشروع الصهيوني الآخذ في التشبث والتعاظم على أرض فلسطين. فكانت الحاجة لميلاد تيار إسلامي راديكالي مقاوم ينهض جنباً إلى جنب مع التيارات القومية الفلسطينية والتحررية المقاومة. وقد سجلت معركة الكرامة أروع البطولات والانتصارات للشعب الفلسطيني التي تزامنت مع سلسلة كبيرة من العمليات الفدائية، ولكن سرعان ما تعرض الفلسطينيون لمحاولات وأد في أيلول الأسود، ولاحقاً في لبنان، وتركهم عزّلاً يصارعون الاحتلال والمتآمرين على تصفية القضية والشعب الفلسطيني، فشعر بأن المشروع الوطني والمشروع الإسلامي في تحدّ وبحاجة إلى مؤازرة، ودعم بأدوات جديدة نوعياً لا كمياً، لتكون هي البوصلة التي تحافظ على اتجاهها نحو القدس وفلسطين إذا تاه الآخرون عن الطريق، من خلال إشراك المقاومة الإسلامية التي تنبأ لمستقبلها المشرق بفكره المستنير، متمنياً ميلاد روح ثورية تسري في دماء الأمة الإسلامية ووجدانها لتخرجها من سباتها، لتنهض وتؤازر حركة التحرر الوطني الفلسطيني «فتح»، وبطابع نوعي وثوري في الفكر قبل أن يكون ثورة على الأرض. جهاد للنفس قبل أن يكون جهاداً للعدو. إيمان في القلب ووعي في العقل قبل أن يكون ثورة على المحتل، في زمن سئمت الأمة من أداء الحركة الإسلامية المحبط التي أهملت الكفاح المسلح والمقاومة والثورة، على حساب الإصلاح والتربية، وأهملت قضية فلسطين والكفاح المسلح بحجة مرحلة التربية والإعداد عند الإخوان المسلمين، وانتظار الخليفة عند الأحزاب والتيارات السياسية والإسلامية الأخرى، وهي سمة المرحلة بحذافيرها، فجاء الشقاقي ليطرح مشروعه النهضوي الثوري الذي جمع به بين «القرآن والبندقية»، فأسس هو ورفاقه حركة الجهاد الإسلامي أواخر السبعينيات، وعلى أثرها اعتقل مرات عدة في السجون المصرية لخطاباته ومؤلفاته الثورية، انتهت بالهروب والعودة إلى أرض الوطن، ليواجه المصير نفسه لارتباطه بأنشطة عسكرية والتحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونقل أسلحة إلى غزة. كان السعي من أجل ملء الفراغ والانقلاب على الواقع المرير، ليحرك هذا السكون والجمود المطلق في لحظة كانت تعيش القضية الفلسطينية أخطر مراحلها بعدما تمكنت إسرائيل من إلحاق الأذى بالمقاومة المسلحة داخل الضفة والقطاع، وإضعافها عقب اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير إلى الشتات.
وهكذا أضحت هذه المرحلة التي أشبه باليوم، عنوانها الضياع والتراجع والجهل والتيه، حتى جاءت انتفاضة الحجارة 87 وما تبعها من ثورة السكين والسيف، أبطالها الشهداء طلال الأعرج ورائد الريفي، ليكون أول من دعا إليها ومارسها هي حركة الجهاد الإسلامي تحت شعار تقديم الواجب على الإمكان، وكوسيلة ناجعة تخلق نوعاً من التوازن للرد على العدوان الإسرائيلي الهمجي المستمر على شعبنا الفلسطيني الأعزل.
لكن النقلة النوعية سجلتها حركة الجهاد عقب عملية بيت ليد البطولية، فأصبح الشقاقي على أثرها هدفاً يقض مضاجع زعماء الاحتلال وجنودهم، فأصدروا التعليمات بضرورة الخلاص من هذا العالم الثوري الذي يحمل فكراً مختلفاً ومغايراً عنوانه: «زوال إسرائيل حتمية قرآنية»، محطماً بذلك جدار الصمت والخوف واللامبالاة والتعصب، فأدرك الشهيد الشقاقي أنه أصبح هدفاً، ورغم الاحتياطات الأمنية تمكنت أجهزة الموساد الصهيوني من النيل منه واغتياله في مالطا يوم الخميس 26/10/1995، وهو في طريق عودته من ليبيا إلى دمشق.