إيلي شلهوبصفحة جديدة من تاريخ العراق يخطّها مشرّعوه اليوم، تتجاوز، من حيث الأهمية والتداعيات، فصل الغزو والاحتلال، ويُرجح أن تكون أكثر سوداوية منهما. «اتفاقية» مذلّة يتوقع أن ترتفع الأيادي في البرلمان العراقي تأييداً لها، في جلسة لن تخلو من معارضة وشغب تقتضيه «ممارسة ديموقراطية» أفضل المحتل على رعاياه بها. سيق الكثير من الحجج، خلال الأيام والأسابيع الماضية، في الدفاع عن وثيقة التسليم هذه، وفي معارضتها. سجال يعيد إلى الأذهان مبارزة كلامية مشابهة اندلعت قبل نحو خمس سنوات ونيف، عندما انسلت الأفعى المرقّطة الأميركية في بلاد الرافدين والتفّت حول المدن من أم قصر إلى بغداد. عندها طُرحت إشكالية، كاد يغطي صخب النقاش حولها أصوات المدافع وأزيز الرصاص. الانقسام كان بين تيارين، يدعو الأول إلى مقاومة الغزاة تحت شعار ضرورة الدفاع عن الأوطان بغض النظر عن فظائع النظام، فيما يقول الثاني بالوقوف على الحياد على قاعدة أنها معركة ضد صدام حسين لا شأن للعراقيين بها.
دعاة المقاومة ما كانوا جميعاً من الصدّاميين، وإن ضموا بعض عملاء النظام السابق. حجتهم كانت بسيطة تقوم على معادلة بديهية: العدوان يستوجب التصدي له. كثيرون منهم، في داخل العراق وخارجه، كانوا ناقمين على نظام البعث، الذي لم يكن بأي حال من النوع الذي يمكن الدفاع عنه.
كذلك الأمر بالنسبة إلى دعاة الوقوف على الحياد. ما كانوا جميعاً من عملاء جورج بوش ودونالد رامسفيلد، وإن كانت ممارسات غالبيتهم تشي بذلك. نموذج أحمد الجلبي كان من الاستثناءات الفجة. حجة هذا التيار كانت أكثر تعقيداً. عقود من الظلم والاضطهاد والمجازر كانت كافية لمعظمهم لكي يكفروا بالوطن. بلغ الحقد في قلوبهم مستوى بات فيه الاحتلال أهون من بقاء الطاغية. قالوا: ليحررنا الأميركيون من صدام وبعد ذلك لكل حادث حديث. حاولوا إقناع الكل بأن موقفهم تكتيكي تحكمه حسابات مصلحية تنتهي مع انتهاء الاستبداد.
التيارات الأساسية الكردية في هذه الحالة كانت الجناح الأكثر تطرفاً، لحساباتها الخاصة طبعاً. كانت نموذج العمالة الخالصة للأميركيين؛ فتحت أحضانها لجنود العم سام في كردستان. قاتلت إلى جانبهم، ودخلت معهم كالفاتحين عاصمة الرشيد.
خمس سنوات ونيف مرت انحرف خلالها اتجاه البوصلة، لدى الجميع، نحو قاطن المنطقة الخضراء، مع بعض الاستثناءات. دعاة المقاومة، ومعظم العرب السنّة كانوا منهم، دخلوا غمار ما بات يُعرف بالعملية السياسية، بعدما حُلت العديد من عقدهم؛ سلموا بانتقال الحكم إلى رئيس وزراء شيعي، في مقابل حصة من الكعكة العراقية، وميليشيات مسلحة تُعرف بـ«الصحوات» لضمان أمنهم وما بقي لهم من نفوذ. وحدها هيئة علماء المسلمين ظلت تُغرد خارج السرب، ومعها بعض المناضلين الوطنيين وخلايا مسلحة خمدت أصواتها بفعل ممارسات المجموعات التكفيرية المسيئة لكل ما هو بشري. لا شك في أن أشهر الاقتتال الأهلي والتطهير المذهبي، ومعهما تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة و«التعاون» السوري، أدت دوراً في ما حدث.
أما دعاة الوقوف على الحياد، فيبدو أن لعبة السلطة قد أغوتهم، بعدما أحكموا قبضتهم على الجنوب وعلى مركز القرار في بغداد. باتوا، على ما يبدو، أسرى عقدة وصولهم إلى السلطة على الدبابة الأميركية. وهم، ككل العرب الأقحاح، يحفظون الجميل ولا يتوانون عن مكافأة مفضلٍ، وخاصة إذا ما ارتبط مصيرهم بمصيره. وحده التيار الصدري لا يزال يغرد خارج هذا السرب، رغم كل الأثمان التي دفعها بدماء أبنائه في مقاومته للاحتلال.
وبين هؤلاء وأولئك، هناك الأكراد، الماضون في مشروعهم الانفصالي، مهما نأوا بأنفسهم عنه، بوسائل مكيافيلية دنيئة. وفي المقابل هناك نموذج المواطن العراقي برزان محمد عبد الله، ذاك الجندي الذي هزئ منه زملاؤه الأميركيون قبل أيام بينما كان يصلي، فتشاجر معهم إلى أن تلقى صفعة فسحب بندقيته وأردى اثنين منهم وجرح ستة قبل أن يقتلوه.
اليوم يلتئم ممثلو «الأمة العراقية» تحت قبة البرلمان لإقرار تلك الاتفاقية المشؤومة. عملية تصويت يجب أن يعوا قبل الإقدام عليها أن لا حجة يمكن أن يبرروا من خلالها إضفاء شرعية عراقية على الاحتلال. ما كان يصلح عذراً لتبرير ما فعله دعاة الحياد، ما عاد يجدي الآن؛ البعبع الصدامي ذهب إلى غير رجعة، إن كانوا قد نسوا. مجلس الأمن الدولي لا يزال موجوداً لتمديد التفويض للأميركيين إذا كانوا تواقين للبقاء. مهمة تجنيب رعاة البقر عناء مقارعة الدب الروسي ليست من شأنهم. وكفاهم نواحاً على الوضع الأمني، الذي يدركون جميعاً أن ضمان استقراره رهن إقامة علاقات ودية مع دول الجوار.
المضحك المبكي في ما يجري هو هذا البازار الذي افتتح قبل مدة، بعنوان مقايضة الموافقة على الاتفاقية بتحقيق مطالب جانبية للأكراد وبعض الكتل العربية السنية.
حكم التاريخ سيكون صارماً هذه المرة: كل الذين يرفعون أيديهم اليوم في البرلمان العراقي عملاء عملاء عملاء، ومعهم كل دعاة إقرار الاتفاقية.
سلمت يداك يا برزان عبد الله.