معمر عطوي *ربما أصبح الحديث عن «احتكار» حزب الله للمقاومة في لبنان ضدّ إسرائيل، متأخراً عن مرحلته، وخارجاً عن سياق النقاش اليومي الذي يهمّ اللبنانيين في هذا الوقت، في ظل الأزمة المعيشية الخانقة والتردّي الاقتصادي، وانعكاسات الصدامات الإقليمية الدولية على الواقع المحلّي واصطفافاته المذهبية. مع ذلك، لا يمكن في المرحلة التي نعيشها اليوم، تجاهل أسباب فرضتها الظروف الماضية لإنتاج الحقبة الحاضرة. ذلك أن هذا العري الفاضح في المواقف السياسية التي برزت ضد المقاومة في السنوات الأخيرة، هو بلا شك نتاج سياسة خاطئة رسمتها سوريا في لبنان وخضع لها حزب الله في سياق مساومة تضمن استمرار المقاومة في مقابل سكوت الحزب عن تجاوزات سياسية وكوارث اقتصادية واجتماعية.
وقد يكون حصر المقاومة بحزب واحد، قد أوتي أُكله على الصعيد الميداني، من خلال انتصارات ونتائج مشرّفة بحكم إدارة الدفّة وفق إيقاع متوازن ومضبوط. لعلّ من إيجابيات ذلك، النتيجة المرضية التي توصلت إليها هذه المقاومة من تحرير للأرض غير مسبوق في الذاكرة العربية المعاصرة، ومن تحرير للأسرى وإسقاط لهيبة كيان لطالما وُصف بالأسطورة.
غير أن لهذه الانتصارات عوامل ذاتية تتعلق بتموضع حزب الله في وسط مذهبي حاضن لسلاحه ولشبابه، انطلاقاً من قناعة تتغذّى من الموروث الديني. قناعة بأن هذا السلاح هو سلاح الشيعة ومصدر قوّتهم وحمايتهم، والدور المناط به يتعلق بالتمهيد لظهور الإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر.
إضافة إلى ذلك، معرفة عناصر حزب الله بحكم أنّهم ينتمون إلى هذا الشريط الطويل المحاذي لفلسطين المحتلة، بكل تضاريس المنطقة ومداخلها ومخارجها. ناهيك بالإعداد الجسدي اللازم للقتال والبعد العقائدي الذي يجعل العنصر يضحّي بنفسه من أجل أرضه طامعاً بجنة وحور عين في عالم غيبي آخر.
والأهم من ذلك كله، استفادة المقاومة الإسلامية، التي كان بعض قياداتها مناضلين في فصائل يسارية وعلمانية وفلسطينية، من تجارب هذه الفصائل وأخطائها الكثيرة، بما يخدم العمل الأمني والعسكري على خطوط الجبهة.
وهناك الظروف الموضوعيّة، التي ساهمت إلى حدّ كبير في تقوية حزب الله وتوفير إمدادات السلاح والمال له من دولة تحمل العقيدة والأهداف نفسيهما، عنيت إيران.
ظروف خلقها الوجود السوري في لبنان والتقاء مصالحه مع الدولة الفارسية، رغم أن سوريا حين دخلت قوّاتها إلى بيروت في الثمانينيات، كان أولى ضحاياها 23 عنصراً من حزب الله سقطوا في «مجزرة فتح الله». سياسة توالت مع مواجهات خاضتها حركة أمل وبعض التيارات الحليفة لسوريا ضد الحزب بهدف إضعافه. إلى أن اقتنعت دمشق في النهاية بأن الحزب أصبح أقوى من أن يقدر أحد على ليّ ذراعه، فلجأت إلى تكتيك جديد يقضي باستخدامه ورقة في مساوماتها الإقليمية والدوليّة. والتقت معه في العديد من النقاط التي لا تؤذي توجهاتها ولا تُضعف من نفوذها وسيطرتها على مفاصل النظام اللبناني. وفي الوقت نفسه، أُتيح للمقاومة أن تتحرك عسكرياً وأمنياً، براحة أكبر، بالتنسيق مع أجهزة السلطة اللبنانية الموالية لدمشق وبغطاء من الاستخبارات السوريّة.
معادلة أسّست لوضع أصبح معه حزب الله في السنوات الثلاث الأخيرة، وحيداً في الميدان مع حلفاء ضعاف. وكان يمكن تلافي هذه المعادلة، لو أن دمشق تملك بالفعل مصداقية في تعميم أسلوب المقاومة على المنطقة، بدءاً من الجولان، بدلاً من الحديث التافه عن ممانعة كلامية تُختصر حين تتعرض لضربة عسكرية أو أمنية، بجملة مهينة هي: «نكتفي بحق الرد»، أو بإقفال مركز تعليمي هنا وثقافي، على طريقة «أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً».
ربما لم يعد الحديث عن استبعاد تيارات أسست للعمل العسكري ضد إسرائيل في جنوب لبنان، من قوى فلسطينية ويسارية وقومية وإسلامية، مجدياً، بعدما سبق السيف العزل. بيد أن هذه التيارات نفسها وقعت في مأزق لا يمكّنها من خوض مقاومة على غرار المقاومة الإسلامية. إذ لا يمكن تجاهل العوامل الذاتية لهذه التيارات، التي باتت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتحولات التي طرأت على العالم بعد حرب الخليج، في وضع لا تُحسد عليه، سواء على الصعيد المادي أو على الصعيد السوسيولوجي، حيث شهدت المنطقة صحوة دينية لعبت دوراً في احتضان مجاهدين من بيئتها وعلى شاكلتها.
وبلا أي شك، الانتصار الذي حققه حزب الله، هو ثمرة زرعتها كل نقطة دم روت أرض الجنوب منذ النكبة وحتى عام 2006، وكل بندقية مهما كانت هويتها. وهذه المشاركة في الانتصار لم ينكرها حزب الله نفسه. لكن في ما لو أقام الحزب بحكم أنه يملك السلاح والمال والقاعدة الشعبية، غرفة عمليات مشتركة تجمع كل المخلصين في الوطن تحت عباءة مقاومة وطنية شاملة، لكان وضعه أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولكان حظي باحتضان حزبي وسياسي وشعبي مختلف عما هو سائد الآن.
لقد تبنّى حزب الله مشروعاً سياسياً مقاوماً، كان ينبغي ألاّ يكون في جانب على حساب جانب آخر، كما تصرّف حين تجاهل المطالب الاجتماعية والانهيار الاقتصادي من أجل التفرّغ للمقاومة وحمايتها. تسوية مع الحكومة أثبتت فشلها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري مباشرة، حيث أصبحت المقاومة ـــ لسوء الحظ ـــ كالبقرة التي حينما تقع، يكثر سلّاخوها.
بيت القصيد هنا، أن أخطر ما ارتكبه النظام السوري في لبنان هو حصر المقاومة في حزب الله دون غيره. لقد أوكل هذا النظام عناصر حليفة من خارج الحزب لمنع مقاومين من الوصول إلى المناطق الأماميّة. ولم يلجأ الحزب نفسه إلى ممارسة هذا الاحتكار أو المنع. بل، حسب معلومات موثوقة ومن الميدان، كانت المقاومة الإسلامية تشرك معها عناصر فلسطينية وإسلامية سنيّة في نشاطات لوجستية وأخرى تتعلق بالرصد والاستطلاع، إلى جانب تعاملها الأمني مع فئات واسعة من اللبنانيين ومن جميع الطوائف داخل الشريط المحتل وخارجه آنذاك. لكن جاءت في ما بعد تجربة «سرايا المقاومة» لاستكمال عناصر الديكور ليس إلّا.
كما غطّت مدفعية المقاومة الإسلامية بعض عمليات انسحاب لمقاومين من أحزاب يسارية وفلسطينية. غير أنّ الحزب نفسه لم يكن يملك السلطة في إقرار غرفة عمليات مشتركة أو توزيع المحاور بين التيارات المقاومة لأسباب تتعلق بهذه التيارات نفسها كما ذكرنا، وأخرى تتلاءم مع تعليمات دمشق بضرورة حصر المقاومة بحزب الله بهدف واضح، أرادت من خلاله السلطة السورية، أن تضبط إيقاع الجبهة الجنوبيّة مع حركتها الدبلوماسية، حتى لا تفلت الأمور من عقالها.
وكان من مصلحة سوريا أيضاً عدم تقوية تيارات سنية أصولية وأخرى يسارية، يمكن من خلال بروز قوّتها في لبنان، أن تمتد إلى الداخل السوري فتزرع فيه «الاضطرابات والفوضى»، ما ينذر بفتح جبهة الجولان، الذي أرادها النظام السوري مقفلة إلى أجل غير مسمّى.
وممّا لا شك فيه، أنّ الخطأ السوري الفادح، الذي كان يحصل باتفاق مع إيران، قد دفعت ثمنه القيادة السورية وحزب الله معاً. الأولى خرجت من لبنان بحال مذلّة، والثاني أصبح هدفاً حتى لصغار النفوس والوضيعين، يرشقونه بالحجارة ساعة يشاؤون.
بينما كان الأولى بسوريا أن تنظّم غرفة عمليات مقاومة مشتركة وتدعمها، تعبّر من خلالها، على الأقل، عن عرفانها بالجميل تجاه حلفائها القوميين واليساريين المناضلين، لا أولئك المتزلفين والوصوليّين الساعين وراء المناصب والوجاهة، الذين سرعان ما نتفوا ريشها حين استشرفوا أن مستقبل المنطقة يتجه أميركياً.
أما حزب الله فقد تكررت أخطاؤه في المشهد السياسي، حين كان يختار حلفاءه الانتخابيين على أساس المصلحة الآنية والتركيبة الطائفية القائمة على الزعامات التقليدية، متجاهلاً رفاقه في الدم والمقاومة. لكن من جانب آخر، قد تختلف الرؤية، وقد يقول قائل إنه لو تمكن فصيل آخر ومن طائفة أخرى من تأدية الدور نفسه، لفعل الأمر نفسه أو أكثر. وقد يصحّ القول، إنّ ضبط الإيقاع قد منع حركة المقاومة من السقوط في الفوضى وسرّع في قطف ثمار الجهاد الطويل.
بأي حال، المقاومة اللبنانية بكل أطيافها وتياراتها وروافدها الشعبية، انتصرت في لبنان، ولا حاجة لتكرار معزوفة من بدأ الخطوة الأولى ومن شارك ورفد وضحّى ومن قطف الثمار. المهم في هذه اللحظة الحساسة كيف يمكن أن تتحوّل المقاومة إلى فعل ثقافي واقتصادي واجتماعي من شأنه خلق حراك يهدف للتغيير الجذري في البنى التقليدية السائدة، وفي إرساء قناعة عامة بأن من يقاتل بصدره العاري أعتى قوة في المنطقة، هو المنتصر، ومن غير الجائز أن تصادر قوى الغيب مجهوداته وبطولاته بعنوان «النصر الإلهي».
* من أسرة الأخبار