يرتبك الأهل عادةً أمام كلمة «زهقان» أو «ضجران» حين يطلقها أطفالهم بنغمات مختلفة. أمام هذا الموقف الصعب، يحاول كثيرون حشو برنامج أبنائهم بأنشطة مختلفة، ويغرقونهم وسط الألعاب، لكن هذا الواقع لا ينطبق على الجميع، فالعديد من الأهل لا تسمح لهم أوضاعهم المادية بشراء كميات كبيرة من الألعاب لصغارهم، فيُعالجون «الزهق» بمشوار إلى الدكان أو عند الجيران. ولكن دراسة فرنسية بيّنت أخيراً أن الملل طريق حقيقي ليكتشف الطفل نفسه وميوله
سناء الخوري
رغم الفراغ الذي يعيشه سامر في قريته النائية، إلاّ أنه يجد دائماً ما يقوم به. ينهمك طيلة النهار في البحث عن بكرات خيطان فارغة، وشرائط حديديّة ليصنع منها عربةً يدحرجها خلفه في الطريق. أما جاره مالك، فيمضي بعضاً من وقته، عند عودته من المدرسة، في صناعة طائرات من أكياس النايلون المرميّة. هذه الأعمال الصغيرة ابتكرها الصّبيَّان لمحاربة الملل، فلما ضاق عالمهما الخارجي بوسائل اللهو بحثا في «مخزونهما الداخلي» ليغرفا منه ابتكارات لتمضية الوقت.
من جهتهما، تمضي لور وأختها يارا وقتهما في المنزل بعد العودة من المدرسة. الملل الذي تعيشه الفتاتان يغرقهما في تأملات غريبة، إذ تقضي يارا (13 عاماً) الوقت وهي تستمع إلى مسرحيات زياد الرحباني، فيما بدأت لور تكتشف موهبتها في رسم الفساتين، لكثرة الوقت الذي تمضيه مع الورقة وقلم الألوان. هنا أيضاً كان الملل طريقاً لكي تكتشف الفتاتان مكنوناتهما الداخليّة وتتعرفان إلى ميولهما الحقيقية.
رغم الاعتقاد الذي يدفع العديد من المربّين إلى البحث عن وسائل لإبعاد الأطفال والمراهقين عن أوقات الفراغ المملّة، وحشر برامج هؤلاء اليومية بدروس وأنشطة مفيدة، يبدو أنّ بعض الملل يفيد الأطفال أكثر مما نتصوّر.ديما لا تجد وقتاً للملل، فهي لا تكاد تنهي دروسها، حتّى تأتيها مدرّسة العزف على البيانو، وما إن تنتهي الحصة حتّى ترافق أمّها إلى أحد صفوف تعلّم اللغة الألمانيّة. أليس هذا كثيراً على طفلة في العاشرة؟ لا توافق والدة ديما على ذلك، فهي تعتقد أن ابنتها موهوبة، وأنّها إن تركتها دون تنمية كلّ تلك المواهب فذلك تقصير «لأنّ البنت كتير ذكيّة».
هكذا، يعتقد بعض الآباء أنّهم من خلال إغراق أطفالهم بالأنشطة قد ينمّون ذكاءهم، وقد يكون صفّ الرقص أو الموسيقى تحقيقاً لرغبة الأم المكبوتة منذ الطفولة، أو مجرّد عقدة في إظهار قدرات الأطفال الخارقة أمام الآخرين... ولكن أين الطفل من كلّ ذلك؟
تقول نجلاء حمادي أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، والمتخصصة في الشؤون التربويّة، إنّ البحث عن طريقة لتسلية الأطفال ليس أولويّة من منظار تربوي، بل «الأهمّ هو أن يحظى الطفل بوقت خاص يفكّر فيه لكي يبدع. فإذا افتقد هذه المساحة فكيف سيتمكّن من التفكير بخياراته بنفسه ويتعوّد على تحمّل المسؤوليّة؟». هكذا، فإن الملل قد يكون تجربةً بنّاءة، إذ يحفّز العقل على الاستقلاليّة والمبادرة ويدفع الطفل إلى اكتشاف ميوله دون الرضوخ لرغبات الأهل. ما يحصل غالباً، هو أن الأهل يقمعون الطفل من خلال فرض أنشطة يوميّة عليه قد لا تكون من اختياره.
وإن كانت غاية التربية إيصال الطفل ليصبح إنساناً مستقلاً وناضجاً، قادراً على التكيّف مع كلّ ظروف الحياة، تشير حمادي إلى أنّ الحلّ لا يكون في «أن نستنفد طاقاتنا في اختراع وسائل لتسليته، بل في إعطائه مساحةً من الحريّة لكي يجد بنفسه ما يسلّيه، إذ يمكن للولد أن يتسلّى بورقة يجرّب أن يصنع منها قارباً، ذلك لأنّه اختارها بنفسه وشعر بقدرته الذاتيّة على الاختيار».
وكما أنّ فرض الأنشطة على الأولاد عذاب مجّاني لهم، كذلك فإنّ الإفراط في شراء الألعاب قد لا يفيد. هذا ما يحصل مع كريم، فغرفته تغرق بكلّ أنواع السيارات وألعاب الفيديو دون أن يستعملها، ويبقى طيلة الوقت يردد جملته الشهيرة «ضجران يا ماما سلّيني». معظم الألعاب لا تنمّي حشريّة الطفل لأنّه يحصل عليها بطريقة سهلة. هذه التسلية المفترضة تقتل الخيال عند الطفل وتجعله اتكاليّاً. تلفت حمادي في هذا السياق إلى أنّ «اختيار الأهل دائماً للنشاط الذي يقوم به الطفل يشبه التعدّي على حقوقه، إذ يشعره بأنّه أسير».
من جهته، لا يضجر ماهر من شيء بقدر ما يملّ من الوحدة، وهو يتسلّى ما دام هناك من يمضي الوقت معه، أخوه الأكبر أو أحد أصدقائه. وماذا يفعل لو كان وحده؟ «أتخيل برأسي أنّني مع أحد أصدقائي». الكثير من الأطفال مثل ماهر يضجرون من الوحدة فقط، ولكنّ خيال الطفل الواسع قد يسعفه في حالات كهذه، فخياله هذا أخصب مما يتصوّر الأهل. صحيح أنّ الأطفال يتعلمون من التجارب الحسيّة من لعب وركض وغيرها من الأنشطة، إلا أنّ الوقت الخاص الذي يمضيه الطفل وحده يعطيه شيئاً من السكون بعد الصخب. أمّا بالنسبة لدور المدرسة، فتلفت حمادي إلى أنّ المواضيع التي تتناولها الكتب اليوم تحدّ من خيال الأطفال، «كأن يقرأ الطفل عن المونة، وعن رحلات الصيد واليوم الأوّل في المدرسة أو جملة فيها حرف الخاء أكثر من عشرين مرّة لتعليمه حرف الخاء». التعامل مع الطفل كأنّه آلة معلومات هو أصل الملل، فهو كائن لديه ميول ورغبات وعاطفة، وإفراط الأهل في القلق على مستوى ذكائه يقتل شخصيّة الطفل ويخلق لديه نوعاً من البلادة الذهنيّة. في المقابل، تنصح حمادي الأهل بألا تكون حجّة الملل وسيلة لكي يبتزّهم أبناؤهم وألا يعتقدوا أن وقت الفراغ الزائد تقصير بحقّ أولادهم، فهذا الوقت «ليس فراغاً، بل هو النموّ الأصلي»، لأنّه يدفع الطفل إلى نبش كنوزه الدفينة.


تجربة بنّاءة

نشرت مجلّة «بسيكولوجي دو لانفان» دراسة عن فوائد الملل على نفسيّة الأطفال، وضرورة إفراد مساحات خاصة بالأطفال تعزيزاً لنموّهم السليم. وقالت الدراسة إنّ الملل من أكثر التجارب البنّاءة للطفل، فهو يحفّز الاستقلاليّة الفكريّة، ويدفعم إلى أخذ المبادرة الفرديّة. من جهة ثانية، الجلوس وحده لبعض الوقت، يحفز الطفل على الاستماع إلى مشاعره الداخليّة، واكتشاف عالمه الفكريّ واستنفاد خياله الخصب. ولفتت الدراسة أيضاً، إلى أنّ العديد من التفاصيل قد تفلت من الطفل إذا انشغل كثيراً، لهذا يساعده وقت الفراغ على التركيز، وهكذا قد يكون وسيلةً فعليّة للإبداع. وجاءت هذه الدراسة نتيجة لمجهود عشرات التربويين والباحثين الذين شاركوا في إعدادها، والتدقيق في المعلومات التي تضمنتها