لن تصدر التشكيلات القضائية قبل الانتخابات، وهذا الواقع غير مسبوق في العدلية التي يزداد الشغور فيها يوماً بعد يوم. تختصر هذه الكلمات ما يقوله عدد كبير من القضاة. فهل تبادر الحكومة لحل هذه المعضلة اليوم؟
حسن عليق ــ احمد محسن
ليس صعباً على زائر العدلية أن يكتشف تغلغل الأرق إلى نفوس أهلها. يتمشّى المحامون والمتقاضون ورجال الأمن في الباحات الرئيسيّة لقصور العدل. ويمكن الناظر أن يلحظ بوضوح قدراً كبيراً من التعب والانتظار، يقفز من وجوه الزائرين نحو عيون بعضهم لبعض، رغم محافظة الأعمال في العدلية على روتينيتها شكلاً ومضموناً، من دون أن ينفي ذلك سطوع المشكلة في الوجوه وفي الكلام.
ضاق قضاة كثر ذرعاً بحالتهم التي بدأت منذ نهاية تموز الفائت، قبل إحالة رئيس هيئة التفتيش القاضي محمد علي عويضة على التقاعد. كان من المفترض، آنذاك، أن تعقد جلسة لمجلس القضاء الأعلى تبت فيها التشكيلات، استعداداً لتقديمها إلى وزير العدل. لكن وعكة صحية ألمّت بعويضة الذي أحيل على التقاعد في بداية آب، لتدخل العدلية وتشكيلاتها في نفق يبدو القضاة الكثر الذين التقتهم «الأخبار» غير متفائلين بالخروج منه قبل الانتخابات النيابية.
في الأسابيع الأولى من آب، كان أعضاء مجلس القضاء الأعلى لا يزالون يذكرون ملاحظات رئيس هيئة التفتيش على قضاة مقترحين لتسلّم مراكز حساسة. وكان من المتوقع أن تصدر التشكيلات في الجلسات التالية مباشرة لاستقالة عويضة. ولكن «نمي إلى أعضاء المجلس أن الحكومة ستعيّن فور نيلها الثقة رئيساً جديداً لهيئة التفتيش، مما حداهم على تأجيل إصدار التشكيلات حتى تعيين خلف للقاضي عويضة، لأن رأي هيئة التفتيش يكون مبنياً على الشكاوى المتعلقة ببعض القضاة»، بحسب أحد أعضاء المجلس.
الحكومة لم تحرك ساكناً، وبقي القضاء من دون رئيس أصيل لهيئة التفتيش يحضر اجتماعات المجلس، وراح الظلام يأخذ مكانه شيئاً فشيئاً داخل أروقة قصور العدل. توالت حالات التقاعد والاستقالات في صفوف أعضاء المجلس، لتزيد طين العدلية بلة. خرج الرئيس أمين بو نصار إلى التقاعد، ثم استقال زميله القاضي سعد جبور تمهيداً لتعيينه رئيساًَ لمحكمة استئناف جبل لبنان، قبل أن يقدّم القاضي رالف رياشي استقالته المدوية احتجاجاً على عدم إصدار التشكيلات. بات أعضاء المجلس أكثر إصراراً على تعيين رئيس جديد لهيئة التفتيش، قبل أن تأتي استقالة رئيس المجلس القاضي أنطوان خير غير المفاجئة، بسبب ترشحه لعضوية المجلس الدستوري. قبل ذلك، كان مجلس القضاء الأعلى قد انتدب عدداً كبيراً من القضاة لسد الفراغات المستمرة في التمدد على مساحة القضاء اللبناني، من دون القدرة على تعيين قضاة أصيلين.

أزمة غير مسبوقة

تتكرر أسئلة القضاة عن توقيت إنهاء هذه المحطة السيّئة التي تحول بين القانون وتطبيقه بالشكل المطلوب، وهي غير مسبوقة في تاريخ القضاء، بحسب أحد أرفع القضاة درجة. يبادر أحدهم عند سؤاله عن التشكيلات إلى القول: «أردنا دوماً الحفاظ على هيبة القضاء، لكن ألا يؤثر ما يجري اليوم على هيبتنا؟». يبدأ القاضي رواية ما يجري: يتألف مجلس القضاء الأعلى من 10 قضاة، ونصاب الجلسات هو 6 أعضاء. ويحتاج إصدار التشكيلات إلى توقيع 7 أعضاء على الأقل إذا أراد أعضاء المجلس إصدار التشكيلات من دون الأخذ بأي ملاحظة يبديها وزير العدل. ولكن في المجلس اليوم 6 أعضاء فقط، ويحتاج إكمال عقده إلى أن تعيّن الحكومة رئيساً للمجلس ورئيساً لهيئة التفتيش، وإلى أن تنتخب الهيئة العامة لمحكمة التمييز أحد رؤساء الغرف خلفاً للقاضي المتقاعد أمين بو نصار وآخر خلفاً للقاضي المستقيل رالف رياشي (إذا أصرّ الأخير على استقالته). وزير العدل كان قد أحال على الحكومة مشروع مرسوم بتعيين رئيس لهيئة التفتيش وأعضائها، لكن المرسوم لم يبحث بعد. أما انتخاب بديلين للقاضيين بو نصار ورياشي فدونه غياب رؤساء غرف في التمييز من الطائفتين الدرزية والكاثوليكية (مع الإشارة إلى أن القاضي رالف رياشي أكّد أكثر من مرة استعداده للعودة عن استقالته فور بدء درس التشكيلات).

القضاء رهن التوافق السياسي

ويؤكّد العديد من القضاة أن صدور المرسومين بحاجة إلى توافق سياسي على سلة واحدة من التعيينات الإدارية: رئيس ديوان المحاسبة ومحافظين أصيلين ومديرين عامّين. وإذا توفرَ التوافق، وأصدر مجلس الوزراء اليوم مرسوم تعيين رئيس هيئة التفتيش، فإن ذلك لن يحل المشكلة من دون رئيس أول. إذ إن نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سعيد ميرزا لن يتمكن من إحالة التشكيلات على وزير العدل لأسباب طائفية. فرئيس المجلس يجب أن يكون من الطائفة المارونية.
يختصر قاضٍ آخر الكلام بالقول «إنها دوامة سياسية طائفية يصعب حلّها. وإذا عيّنت الحكومة قاضيين في المنصبين الشاغرين، فإن إصدار التشكيلات يحتاج إلى أكثر من شهرين. وهذا يعني أننا سنكون في منتصف السنة القضائية، وهو أمر غير مسبوق. إذ إن القضاة بدأوا بدراسة الملفات المحالة على دوائرهم. وإذا صدرت التشكيلات وكانت تنص على تغييرات كبيرة في المراكز، فإن ذلك يعني أن على قضاة جدد أن يعيدوا دراسة الملفات، مما يؤدي إلى تأخير بت أمرها».
ومن ناحية أخرى، يؤكّد مصدر واسع الاطلاع أن بعض المحاكم يعاني نقصاً حاداً في الغرف الإضافية، كمحكمة جنايات بيروت، التي تنظر غرفتها الوحيدة في أكثر من 800 ملف سنوياً. ومن المنتظر أن تنص التشكيلات التي ستصدر على إنشاء غرفة إضافية فيها. ويرى أحد القضاة أن عدداً كبيراً من المحاكم، عندما كانت الحرب الأهلية في أوجها، كانت تعمل بشكلٍ أفضل مما هي الحال عليه اليوم، «فتقابل العدد المطلوب من الشهود، وتصدر الأحكام على الموقوفين في فترات معقولة».
مشكلة إضافية يسبّبها تأخير التشكيلات، هي عدم تعيين القضاة المتخرّجين من المعهد، الذين وصل عددهم إلى 105 قضاة. معظم هؤلاء منتدب لمساعدة قضاة أصلاء أكد عدد منهم لـ«الأخبار» أن دور القضاة الجدد «أساسي في دوائرهم»، لكنهم لا يوقّعون على القرارات والأحكام، وبالتالي، لن يرى أحد نتيجة عملهم. ويقول أحدهم: «أشعر أنني سأتقاعد قبل صدور التشكيلات».
كلّ القضاة الذين التقتهم «الأخبار» يجمعون على أن الحل يبدأ في مجلس الوزراء. ولكن، إذا لم يبادر مجلس الوزراء قريباً جداً، فإن ذلك يعني أن التشكيلات ستُرجأ إلى ما بعد الانتخابات. وبات التشاؤم السمة الأبرز لأحاديث رجال العدالة، مضافاً إليه سخط مما وُصِف بـ«إصرار السياسيين على السطو على القضاء، عبر الأبواب الاعتيادية: المحاصصة الطائفية والمناطقية».
لكنّ لأحد أبرز القضاة في لبنان رأياً مختلفاً: «السلطة القضائية ليست مستقلة بموجب القانون، بل بناءً على الممارسة. ومن يرفع سداً بينه وبين السياسة، لن يتمكّن أحد من السياسيين من أن يقفز فوقه. ومن لا يزر السياسيين تملّقاً وطمعاً في دعم، يتجرأ على منعهم من التدخل في القضاء».


شواغر الجسم القضائي بالجملة

لم تصدر التشكيلات القضائية التي أعدّها مجلس القضاء الأعلى عام 2006، إذ لم يوقّع رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود على مرسومها، بسبب تشكيكه بدستورية الحكومة. ومنذ ذلك الحين، ازداد الشغور في عدد كبير من المراكز القضائية الأساسية، أبرزها منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى (الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورئيس المجلس العدلي). وكان مجلس القضاء قد انتدب قضاة ليشغلوا عدداً كبيراً من المراكز بعد شغورها، ومنها: رئيس هيئة التفتيش القضائية، الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في كل من بيروت وجبل لبنان والبقاع (أرفع منصب قضائي في المحافظة)، رئيس مجلس العمل التحكيمي، رؤساء 3 غرف في محكمة التمييز، النائب العام الاستئنافي في كل من البقاع والشمال وجبل لبنان، رئيس محكمة الجنايات في كل من بيروت وجبل لبنان، رئيس الهيئة الاتهامية في كل من بيروت وجبل لبنان، قاضيا تحقيق في جبل لبنان. ومن المنتظر أن يشغر منصب المدّعي العام المالي قبل نهاية العام الجاري، بعد إحالة الرئيس خليل رحال إلى التقاعد.