محمّد زبيبينجح زياد بارود في المحافظة على بعض ممّا كانه قبل تولّيه حقيبة وزارة الداخلية، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بـ«الأدبيّات»، فوزير الداخلية الشاب، الآتي من مهنة المحاماة والنشاط الحقوقي العام، لم يتوانَ عن الإعلان، في محاضرة ألقاها في نهاية الشهر الماضي في الجامعة الأنطونية، أنه «مع دولة الحق ضد دولة القانون». لا ينسجم هذا الموقف مع الثقافة السائدة، التي تروّج لشعار «دولة القانون»، وكأنه التعبير الأمثل عن الرغبة في بناء «الدولة الديموقراطية» و«نظام العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص»... فالطبقة السياسية، في تبنّيها (اللفظي) لهذا الشعار وعملها الدؤوب من أجل ترسيخه في الوعي الجمعي، لا تهدف إلا إلى تكريس هيمنتها على السلطة، ما دامت هي التي تفصّل القانون وتقيسه على مقاساتها وتضع نفسها فوقه أو تضعه في خدمتها وتؤسس لنظم وآليات وأجهزة تطبيقه أو انتهاكه.
الحق، إذاً، مسألة أخرى، أمّا القانون فغالباً ما يكون جائراً، ساحقاً للحق نفسه، ولا سيما في بلد كلبنان، حيث لا قيمة لأيّ من الحقوق الأساسية، بما فيها المنصوص عليها صراحة في الدستور، إلا بمقدار ما تلبّي مصالح معينة ومحددة، غالباً ما تكون ظرفية، وليست بالضرورة عامّة أو وطنية أو اجتماعية.
لن تكفي هذه العجالة لسرد كل الأمثلة التي يمكن استخدامها لإبراز مدى الاختلاف الجوهري بين «الحق» و«القانون» في الواقع السياسي اللبناني، والنموذج الديموقراطي عموماً، ولكن بعض الأمثلة قد يكون كافياً للاستدلال على الأقل...
ففي لبنان قوانين تسلب حقوقاً مكرّسة للناس، ولعل قانون إنشاء الشركة العقارية «سوليدير» يجسّد المثال الفاضح على ذلك، إذ إن الملكية الفردية التي ينص الدستور على احترامها، تمّ انتهاكها بموجب هذا القانون عبر مصادرة أملاك شريحة واسعة من الناس في وسط بيروت، ومنحها لشريحة أخرى قليلة لتراكم الثروات الشخصية الهائلة.
وفي لبنان قوانين تميّز بين اللبنانيين، كما تميّز بين الجنسين منهم، وبين الفئات من غير اللبنانيين... من قوانين الانتخاب (الناخبون ليسوا سواسية أمام القانون) إلى قوانين الأحوال الشخصية (الزواج والإرث والحضانة تحديداً، والتي تفرض على حامل الجنسية اللبنانية أن يكون منتمياً غصباً عنه إلى أحد المذاهب المعترف بها رسمياً حتى لو كان ملحداً أو علمانياً)، مروراً بقانون الجنسية (أبناء المرأة اللبنانية لا يستحقون جنسيتها) وقانون التملّك (الذي حرم الفلسطيني المقيم من حقوق غير مبررة، بل خطيرة، منحها للأجانب الآخرين غير المقيمين)... فهذه القوانين، وغيرها كثير جداً، لا تدلّ على أن النظام في لبنان، يقوم، بحسب ما ورد في مقدمة الدستور، على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل». وعلى أيّ حال، فإنّ هذه القوانين تنبع من رحم النظام الطائفي الذي لا يتيح أمام اللبنانيين فرصاً متكافئة في تبوّء أو إشغال أي من الوظائف العامّة أو الإدارية، إلا وفقاً للمحاصصة المذهبية المعروفة.
وهناك قوانين تتعارض أو تنتهك قوانين أخرى، تبعاً للحاجة. فالقانون 717 (الصادر في عام 1998 والخاص بتحويل سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام والجامعة اللبنانية) وقانون الحساب العجيب (حساب إدارة الدين العام وخدمته وخفضه الصادر في عام 2002) يتعارضان مع قوانين كثيرة، منها قانون التجارة (الذي يصنّف ديون الموظفين كديون ممتازة تفوق درجتها درجة ديون المصارف)، فالقانون الأول يقرّ بحقوق الموظفين بالمفعول الرجعي عن تصحيح الأجور من 1/1/1996 وحتى بدء تطبيقه في 1/1/1999 إلا أنه يسمح للحكومة بعدم الإيفاء بهذا الدين، فيما القانون الثاني أعطى الأولوية المطلقة لتسديد ديون الدولة للمصارف على حساب سائر الدائنين، وحقوق كل اللبنانيين، ولا سيما الموظفين من مدنيين وعسكريين والمكلفين الرازحين تحت ثقل الأزمة الاقتصادية الخانقة.
وفوق كل ذلك، توجد في لبنان قوانين لا تُنفّذ أبداً، ولا يوجد من يسأل عن عدم تنفيذها، من قانون الإثراء غير المشروع، إلى قانون إلزامية التعليم الابتدائي ومجانيّته، مروراً بقوانين البيئة والضمان الاجتماعي والموظفين والمناقصات العمومية وتنظيم الوزارات والهيكليات الإدارية... وغيرها الكثير الكثير.
والأنكى، أن في لبنان قوانين تشرعن وتقونن وتبيح وتسهّل وتشجع الانتهاكات القائمة والمستمرة لقوانين قائمة ومرعية الإجراء، من قوانين البناء والتنظيم المديني (قوانين تسويات مخالفات البناء على سبيل المثال ومشاريع قوانين تسوية التعدّيات على الأملاك العامة البحرية والنهرية وتنظيم الكسّارات والمقالع) إلى قوانين الضرائب (الإعفاءات السنوية من غرامات التأخير التي تعاقب من يدفع الضريبة وتكافئ من يتهرّب من دفعها فضلاً عن عدم اعتبار التهرّب الضريبي بمثابة جرم يعاقب عليه القانون بقساوة)...
لائحة الأمثلة لا تنتهي، ولكن هذه العيّنة الصغيرة والبسيطة تكفي للقول: «تبّاً لدولة القانون هذه»، دولة لا تؤسّس دائماً إلا للحروب أو حكم البوليس، ويعيش الناس في كنفها رعايا ينتظرون تأشيرات الهجرة على أبواب السفارات، يائسين مذلولين.