خصّ رئيس تحرير الآداب الدكتور سماح إدريس «الأخبار» بمقالة تنشر بعد أسابيع، في كتاب يصدر عن الراحل الكبير الدكتور جورج حبش، في الذكرى الأولى لرحيله التي تصادف في الثامن والعشرين من كانون الثاني
سماح إدريس *
ذاتَ صباح من أيلول أو تشرين الأول 1999 رنّ الهاتف. ردّت كيرستن وقالت إنّه جورج حبش. أيّة مزحةٍ ثقيلة هذه، جاوبتُها. تناولتُ الهاتف متوقّعًا أن يكون أحدُ أصدقائي السمجين على الخطّ، مقلِّدًا جورج حبش. كان المقلِّدُ مذهلاً في أدائه: النبرةُ نفسُها، وثقلُ اللسان الذي أصابه بعد فالج الثمانينيات هو ذاتُه. «كيف حالك يا سماح؟» سأل المقلِّد؟ منيح، أجبتُ. «أنا بحبَّك يا سماح، انت إنسان محترم». شكراً، أستاذ، أجبتُ. بقيتْ إجاباتي مقتضبة، ولم أخاطِبْ محدِّثي بـ«الحكيم» طوال دقيقةٍ كاملة: فالزعيم الحقيقي لا يتّصل بالجماهير وإنِ امتَدحها كلَّ الوقت، وهو بالتأكيد لا يُطْري «المثقّفين» الذين وجّهوا إليه نقداً مكتوباً غيرَ مباشر قبل أيّام.
لكنّ جورج حبش كان هو مَنْ يقلِّد جورج حبش! اكتشفتُ ذلك في الدقيقة الثانية. وإذّاك، أحسستُ بثقلٍ في لساني، فكأنّ فالِجَ الحكيم أصابني بالعدوى. كان الحكيم (هل كان الحكيم حقّاً؟) يُغْدق عليَّ عباراتِ الحنان والحبّ والاحترام، ويرجو منِّي أن أزورَه في دمشق. أزوركَ في الصين وفي جُزُرِ الواقواق، قلتُ في نفسي. حكيم، سألتُه في الدقيقة الثانية، كيفك يا حكيم؟ إنتَ الحكيم... عن جدّ؟
توجّهتُ إلى دمشق مع عظيمٍ فلسطينيٍّ آخر: الدكتور أنيس صايغ. كان الحكيم قد أخبرني أنّ الغَرضَ الأساسَ من رؤيتي هو نقاشي في مقالةٍ (هي في الواقع رسالةٌ مفتوحةٌ إليه) كتبتُها في جريدة «الديار» عقب إرسال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أمينَها العامَّ المساعد الشهيد أبا علي مصطفى على رأسِ وفدٍ إلى مصر للقاء المرحوم ياسر عرفات بعد طول انقطاع. والهدف: وضعُ أسس إقامة «حوار فلسطينيّ شامل» من أجل «تفعيل» منظمة التحرير الفلسطينية تمهيداً «لمفاوضات الوضع النهائيّ» التي تَشْمُل «مواضيعَ حسّاسةً جدّاً» كالقدس والمستوطَنات والحدود واللاجئين. كنتُ بالغَ الشكّ في جدوى اللقاء في مصر، وَحَدستُ أنّ حبش، الذي كان الأمينَ العامّ للجبهة وقتها، متشكّكٌ هو الآخر، وإلّا لَذَهبَ بنفسه إلى القاهرة (رغم إعاقته التي لم تَمنعْه من عقد اللقاءات)، أو لَما قال لجريدة «السفير» في 28 تموز (أيْ قبل أيّام من لقاء أبي علي وعرفات) إنّ «99% من أعضاء الجبهة وكوادرها ليس لديهم أيُّ أملٍ» في هذا الحوار.

نبلُ السياسة والثقافة



في المقالة/ الرسالة المفتوحة اعتبرتُ أنّ حوار الجبهة الشعبية (والجبهة الديموقراطية) مع عرفات لن يَدْفعَ بهذا الأخير إلى تغيير سياساته التنازلية، وإنّما سيجيِّره (بما عُرف عنه من دَهاءٍ وقدرةٍ على احتواء خصومه الداخليين وإغراقِهم بالوعود الخُلَّبية) لتقوية موقفه التفاوضي في «عملية السلام» على حساب المبادئ الأساسية التاريخية للجبهة الشعبية (عدم التخلّي عن أيّ شبرٍ من أرض فلسطين التاريخية، حقّ العودة إلى كامل الأرض،...). وكان عرفات قد سبق أن ألغى الميثاقَ الوطني الفلسطيني (واصفًا إيّاه بأنّه caduc، هكذا بالفرنسية!)، وتَعَهَّد في واي ريفير بـ«مكافحة الإرهاب»... بالاتّفاق مع المخابرات الأميركية والموساد.
وكنتُ أعتبر الحكيم ضميرَ الثورة، وصمامَ أمان الموقف الوطني السليم، وضامنَ الوحدة الفلسطينية الحقيقية، رغم أنني لم أنتسبْ إلى الجبهة الشعبية إلّا شهوراً قليلةً في صباي قبيْل اجتياح 1982، ولم أتخطَّ المرتبةَ الدنْيا في الهيكلية الحزبية بسبب تداعي التنظيم في بيروت عقب الاجتياح أولاً، ومُشاكستي الدائمة ثانياً، وطبيعتي البورجوازيّة الصغيرة ثالثاً كما أخبرني بعضُ المسؤولين آنذاك ـ وهي طبيعةٌ أكّدوا أنها تَنْفر وتخاف من العمل الحزبي الصارم والأهبة العسكرية الدائمة (وقتَها، بالمناسبة، كان يُفترض بكُلّ عسكريّ في «الجبهة» أن يكون سياسيّاً، وبكلِّ سياسيٍّ أن يكون عسكريّاً، على ما جاء في «الاستراتيجية السياسية والتنظيمية للجبهة الشعبية» إنْ لم تخنّي الذاكرة). أيّاً يكن الأمر، فقد خَتمتُ رسالتي المفتوحة بالمقطع التالي الذي يعبِّر عن ثقتي بشخص حبش، وعن دعوتي إياه إلى التشبث بخطّه الحازم، فضلاً عن نقدٍ غيرِ مباشر لـ«تكتيكات» بعض القادة الذين كانوا يَدفعون الجبهةَ إلى التقارب مع عرفات وسلطته الوليدة:
«وأخيرًا، أيّها الأمينُ العامّ، أين الجبهة الشعبية؟ هل هي جبهةُ جورج حبش وغسان كنفاني وأبي ماهر اليماني (المستقيل) وأحمد قطامش وماهر اليماني وصابر محيي الدين وغيفارا غزّة؛ أمْ جبهةُ المنتفعين من السلطة الجديدة المبنيّة على أعشارٍ من فلسطين...؟ أين الـ 99% من أعضاء الجبهة وكوادرها الذين تؤكِّد في جريدة السفير، أيها المناضلُ الكبير، أنْ ليس لديهم أيُّ أملٍ بهذا الحوار؟...»
في مكتب حبش في دمشق ضممتُ رمزَ فلسطين إلى صدري، وجلستُ أتأمّله، وأنقِّلُ بصري بين يديْه وفمِه ووجهِ د. أنيس صايغ. قال الحكيم إنّه يؤيِّد كلَّ ما جاء في مقالي، لكنّه تمنّى عليّ ألّا أقسو على أبي علي مصطفى. لم أفهمْ، قلتُ. ردّ بأنّ أبا علي «زَيّنا»، يعني مثل الحكيم ود. أنيس ومثلي، لكنّه «يجرِّب» الآن كلَّ الوسائل حفاظاً على الوحدة الوطنية الفلسطينية وحرصاً على أن تشارك الجبهةُ في التخفيف من أضرار مفاوضات الوضع النهائي. ولكنْ أيُّ وضعٍ نهائيّ يا حكيم، سألتُه؟ وهل سنصل إلى هناك أصلاً؟ ألديكم أيُّ وهمٍ في حصول التسوية، يا رفيق أبو المَيْس؟ ومتى كان الأخ أبو عمار حريصاً على الوحدة... إلّا إذا كانت تحت عباءته؟ جاء الردّ متلعثماً على شفتَي الحكيم، الذي كان قد بدأ يشعر بالتعب بعد ساعة من اللقاء. قال إنه ما زال كما هو، وإنه لا يؤْمن بأنّ التسوية قريبةٌ أو ممكنة مع العدوّ الصهيوني.
حين استُشهد أبو علي بصاروخٍ إسرائيلي بعد أعوام في الضفة الغربية، تذكّرتُ لقائي الأوّل، ذاك، بالحكيم. كان حبش يتحدّث عن مساعده أبي علي كما لو أنّه ابنُه الذي ذَهَبَ غَصْباً عن نفسه إلى مصر للقاءِ عرفات. وكانت الجبهة الشعبية، على ما يبدو، قد بدأتْ منذ ما قبل ذلك العام (أيْ 1999) نقاشَ فكرة إرسال بعض قادتها وكوادرها إلى «الداخل» للنضال من هناك. ولم يخلُ النقاشُ الداخلي، كما تناهى إلى سمعي، من حدّة، فيما بقي موقفُ حبش ثابتاً برفض العودة في ظلّ شروط أوسلو. وتساءلتُ، وأنا أراقب، دامعَ العينين مختنقَ الأنفاس، مكتبَ أبي علي المتفحّم على شاشة «الجزيرة»: تُرى، أكان أبو علي مقتنعاً فعلاً بالذهاب إلى رام الله، بعد أعوام من لقاء عرفات في مصر، للقاء موته هذه المرّة... ذلك الموت الذي بدا لي، في لحظةٍ استرجاعيّة، محتوماً ومؤكّداً بالنظر إلى مبدئية أبي علي واستقامته وثباته على العدالة؟ أليس مستحيلاً التوفيقُ، أصلاً، بين مبادئ حبش وأبي علي الثورية من جهة، و«مبادئ» رجال السلطة الانتهازيين من جهة ثانية؟ ألم يكن أبو علي شهيدَ الوهم التسوويّ الذي راود مخيّلةَ البعض (داخل «الشعبية» نفسها أحياناً)، قبل أن يكون شهيدَ «الغدر الإسرائيلي» (ما أغبى هذا التعبير!)؟ وأخيراً، ألم يكن أبو علي، باستشهاده الفاجع، يؤشِّر إلى خياراتِ حبش الصائبة التي أكّدها في لقائي الأول به، ويحذِّر ـ بدمه المتناثر ولحمِه الممزّق ـ من سلوك دربه بالذات: دربِ العمل من داخل السلطة لخدمة ما يناقض الأسسَ التي قامت عليها هذه السلطةُ؟!

■ ■ ■

التقيتُ الحكيم ثانيةً في دمشق قبل أعوام. كان ثمة حلمٌ يراوده منذ هزيمة 1982 في بيروت ويريد تحقيقَه بأيِّ ثمن وبأسرع وقت: إنه إنشاءُ مركزٍ لدراسة أسباب الخلل أو الهزيمة في المسيرة الوطنية الفلسطينية والعربية. كنتُ من بين ضيوفه في الأيام الأولى التي سبقت انطلاقةَ مركز «الغد». جئتُ قبيل منتصف الليل، وكان عليَّ العودةُ إلى بيروت في الصباح التالي. نعم، سافرتُ ساعاتٍ طويلة بهدفٍ أوحد: أن أحيّي الحكيم وأقبِّلَه. هناك، رأيتُه خارجاً من الاجتماع، فيما كنتُ أهمُّ بدخوله. كان يمشي بين مُرافقٍ أمامه وآخرَ مِن خلفه، لا خوفاً على حياته كما يفعل «القادة»، بل خشيةَ التعثّر بسبب شلله الجزئي. صافحتُه وقبّلتُه وقلتُ إنني سأراه قريباً. صعدتُ إلى غرفتي فوراً، فنمتُ، وأفطرتُ ـ مصادفةً ـ مع جوزف سماحة وحلمي موسى (وكانا مدعوَّيْن هما أيضاً)، ثم قفلتُ راجعاً إلى بيروت.
في بيروت سألتني كيرستن: ما الذي يجعلُ إنساناً نقديّاً مثلَك يهرول في منتصف الليل لتقبيلِ زعيم؟ أجبتُها بأنها لا تَفْهم الوضعَ تماماً. قلتُ إنّ الزعيم شيء... والحكيمَ شيءٌ آخر. ردّت بأنّ حسّي النقديَّ يَخُونني أحياناً. تردّدتُ ثم أقررتُ بأنّها قد تكون على حقّ. ولكنني اليومَ، بعد عامٍ على رحيل الحكيم، أتساءل: أخانني حسّي النقديُّ فعلاً؟ وأُجيب بعد التفكير: كلا! فأنا لم أتوقّفْ يوماً عن نقد حبش والجبهة الشعبية حين لا أقتنع بمواقفهما. لكنني كنتُ دائمَ الثقة بأنّ الحكيم لم يَصْدرْ في أيٍّ من مواقفه عن أنانيةٍ ذاتية، أو تعصّبٍ فصائليّ، أو طمعٍ بمكسبٍ مادّيّ. وهو قد بلغ الذروةَ في أخلاقيّته (التي نفتقدها في كلّ القادة والزعماء العرب بلا أدنى استثناء) حين تخلّى عن منصب الأمانة العامة للجبهة الشعبية بعدما شَعَرَ بالعجز عن تحمّل المسؤولية على أكملِ وجه. دلّوني، أيّها الناسُ، عمّن تخلّى عن الرئاسة طوعاً في وطننا العربي المقزّز بأنظمته ومعظم أحزابه؟ دلّوني عمّن لَبَطَ «السلطةََ» برجله شبهِ المشلولة، واختار دورَ المتأمّل الباحثِ في هزيمةِ قومه أملاً في استنهاضهم من جديد؟ دلّوني على زعيمٍ أو رئيسٍ عربيّ واحدٍ، منذ قيام الدول القُطْرية العربية، قاوَمَ إغراءاتِ السلطة، ومالَََها الفاسدَ، وجاهَها الوضيعَ، وسجّادَها الأحمرَ المزيَّفَ، مؤْثراً المبادئَ الشريفةَ، والعملَ الصامتَ، والكفَّ الطاهرةَ... وحلمَ العودة إلى اللدّ ولو جثماناً بعد قرون؟!
أيُّها المسيح القائد الراحل: قمْ من بين الأموات وارجُمْ لصوصَ فلسطين، وبائعيها، وقتلةََ أحلامها، ومقطّعي أوصالها بين سلطتيْن خاويتيْن وعاجزتيْن... وقامعتيْن رغم ذلك!

■ ■ ■

عامَ 2001 أعلنّا، بابا الدكتور سهيل إدريس وأنا، عجزَ مجلة «الآداب» عن الاستمرار من دون دعم دار الآداب والقرّاء. وأرفقْنا إعلانََنا برفضْنا لأيّ دعمٍ من جانب الأنظمة العربية. تكاثرت الاشتراكاتُ الإفرادية والمؤسساتية في ذلك العام، وبِعْنا خلال شهورٍ أكبرَ عددٍ من المجموعات الكاملة من المجلة، فقرَّرْنا الاستمرارَ «عدداً بعددٍ» كما يقولون. ولكنْ بعد سنة نَفِدت الأموالُ المخصّصةُ لإصدار أعدادٍ جديدة، فوقعنا في حيص بيص. وكنّا ما نزال نعوِّل على تطورٍ إيجابيّ ما (في أسواق العراق أو الجزائر أو ليبيا...)، دون جدوى.
في تلك الأيام العصيبة وَصَلتْني من الحكيم رسالةَُ فاكس تُعادل، في ما أظنّ، ثمنَ الاستمرار في إصدار المجلة شهوراً أو أعواماً كاملة! كانت الرسالةُ مؤلّفة من حوالى 250 كلمة مشْبَعَةً بالتقدير والامتنان والوفاء لدور المجلّة. وأستميح القرّاءَ الكرامَ عذراً هنا بإيراد بعض العبارات؛ فنحن، معشرَ رؤساء التحرير المستقلّين الذين لا يتقاضون قرشاً من حزبٍ أو نظامٍ، تدغدغنا الكلمةُ الصادقةُ النابعةِ من قلبِ مناضلٍ نظيف، أكثرَ مما تفعله عشراتُ آلاف الدولارات... لو تيسّرتْ. كتب الحكيمُ، بتوقيع «مؤسِّس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» (بعد استقالته من أمانتها العامّة)، ما يلي:
«اسمحوا لي بأن أتقدّم إليكم بكلمات التهنئة في يوبيل الآداب الذهبي، وبالتقدير العالي لكلّ هذه المثابرة والاستمرارية بهذا المنبر الكبير الذي قََدَّم أدباء عرباً كباراً، وأَسَّسَ للمشهد الثقافي العربي المعاصر، وواكَبَ مظاهرَ الحداثة وتطوّرَ الفكر العربي والنقد الأدبي. واستطاعت مجلة الآداب عبر مسيرتها الطويلة أن تحتلّ مركزَ الصدارة، وأن تقدِّم صورةً مضيئةً للفكر التنويري والأدب الإنساني. لقد كانت الآداب، وما زالت، في قلب المشهد الثقافي الذي يواكب فعلَ الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة إلى جانب المناضلين الشرفاء (...). ورغم كلّ الصعوبات التي يواجهها القائمون على إصدارها، ورغم نضب الإمكانات، فإنّ ثقتَنا كبيرةٌ بالمجلة وبالقائمين على استمرارها في الصدور. وإني أقرأ إرادةَ أسرة تحرير المجلة وتصميمها على الاستمرار والتطوير...» (الآداب، العدد 3/4، 2002، ص 112).
قد تبدو العباراتُ السابقةُ مجرَّدَ كليشيهات لا تغْني ولا تسْمن من جوع. والحق أنها كذلك فعلاً على مستوى المردود المادي. غير أنّها حين تَأتي من الدكتور جورج حبش، قائدي وأبي الثاني، فإنها بلا ريبٍ ستمسّ شغافَ قلبي بلمح البصر، وستُضرم النارَ في عزيمتي الواهنة. قلتُ لسهيل، وأنا أقرأها له متهدّجَ الصوت، إنّ أشرفََ حكيمٍٍ لأشرفِ ثورةٍ إلى جانبنا يا دكتور، فهلاّ حاولنا الاستمرار؟
وقرّرنا الاستمرار.

■ ■ ■

لم يكفَّ الحكيمُ عن الاتِّصال بي بين الفينة والفيْنة. كنتُ أفاجأ (أُفاجأ؟ بل أتلهّف) بالرفيق ماهر اليوسفي يتّصل بي، مرةً كلّ سنةٍ أو سنتين، ليُخبرني بأنّ الحكيمَ يرغب في الحديث إليَّ. وكان الحكيم دائماً يتكلّم على افتتاحيةٍ كتبتُها وأعجبتْه. وهكذا صرتُ أكتب وأنتظر، أوّلَ ما أنتظر، هاتفَ أبي من البناية المقابلة، وأحياناً هاتفَ الحكيم من دمشق أو عمّان.
ثمّ خفّت الاتصالاتُ مع اشتداد المرض على الاثنين. وفجأةً، سكنتْ روحُ الحكيم، فانفجرتْ لوعتي، وبكيتُه كما لو كان الميّتُ أبي أو أمي. ثم مات أبي بعد أسابيع، فبكيتُه كما لو كان الميّت هو الحكيم. وبتُّ لا أعرف أين يَصبُّ دمعي: فهُما، الدكتوران معاً، خلاصة مصفّاةٌ لكلِّ ما شهدتُه في حياتي من نقاءٍ طفوليّ، وزُهدٍ تنسّكيّ، وتصميم يهدّ الجبالَ، وسياسةٍ شريفةٍ، وثقافةٍ نبيلة. صرتُ اليتيمَ النموذجيَّ: عارياً إلّا من اللوعة. وها إنّ الذكرى الأولى لرحيل الحكيم جورج وأبي سهيل تقترب بخطى حثيثة، فأحسُّ ـ كما أحسستُ حين فقدتُهما في غضون شهرٍ واحدٍ تقريباً في بداية العام الماضي ـ بأنّ عالمي قد أضاع توازنَه إلى الأبد.
* رئيس تحرير مجلة الآداب