سلام الكواكبي *أما خلفه المنتخب ديموقراطياً نيكولا ساركوزي، فقد حاول أن يسير على الخطى نفسها، راغباً في اكتساب شعبية يضيفها إلى الشعبوية التي أوصلته إلى سدة الحكم، ولكنه ظهر متوتراً ومنزعجاً على ما يبدو من كثرة «الرعاع» المحيطين به، إضافة إلى مزيج من روائح الروث والأجبان التي يعبق بها المكان... وهو المعتاد على ارتياد المطاعم الفاخرة ومعاشرة أصحاب الرولكس واليخوت من علية القوم، عجماً وعرباً.
ومحاولة منه للتخفيف من توتره، حاول التوجه إلى الناس بطبيعية مفتعلة، ومدّ يده لمصافحة أحد الزائرين، ولكنه لم يطلب قبل قيامه بذلك، «فيشة» عن الرجل، فلم يعرف أنه من معارضي سياساته ومن أعضاء شبكة «تربية بلا حدود» التي تواجه، كمنظمة مجتمع مدني، سياسات الحكومة في ما يخص التعامل مع التلامذة من أبناء المهاجرين. فرفض هذا المواطن الزائر المصافحة صارخاً: «آه لا، لا تلمسني!»، فجاءت ردة الفعل الساركوزية فورية، حين انفعل وقال له «اغرب من هنا أيها الأحمق المسكين».
تصرفٌ رئاسيٌ انتقدته صحف اليمين كما اليسار، معتبرةً إياه خروجاً عن المسموح للرؤساء وضرورة تعاليهم عن الدخول في مهاترات صبيانية، بعيداً عن الحكم سلباً أم إيجاباً على تصرف المواطن (كلمة المواطن لها معنى في بعض الدول، ولله الحمد). ورأت الأقلام التي لا تخشى لومة لائم، أن ردود فعل الرئيس على الطريقة الشوارعية التي تكاثرت في فترة قصيرة، لا تليق بمنصبه، وعليه التمسك بحبال الصبر إن أراد الاستمرار في حكم شعب أقل ما يقال إنه لا يملّ من الشكوى و«النق». فطويت صفحة أخرى من هفوات رئيس الجمهورية، وبقيت وسائل الإعلام مستنفرة تترقب القادمات.
أما صاحبنا الذي طاله حكم المحكمة، فليس هو من رفض المصافحة، بل هو أراد، كما صرّح أمام القضاء، أن يُشير إلى أنه لا يليق برئيس الجمهورية التلفظ بمثل هذه العبارة. وكان المدعي العام، ليس الاشتراكي في هذه البلاد، وليس الثوري أيضاً ـــ إنه «عام» وحسب ـــ قد طلب عقوبة أكبر تصل إلى ألف يورو، مشيراً إلى أنه «عندما نشتم رئيس الجمهورية، فإننا نشتم المؤسسة». ولكن القضاء، غير الاستثنائي، ولا علاقة له بأمن الدولة ولا بأمزجتها، قرر غير ذلك، ورأى أن العقوبة الرمزية كافية لأن المطلوب «تحذير بسيط، وحيث إن المدعى عليه لم يقصد الهجوم والتعدي، ولكنه كان يريد فقط أن يعطي درساً في التهذيب ليس في محله، وكان عليه إن أراد فعلاً توجيه هذا الدرس، أن يذكر قبل الجملة السابقة عبارة تشير إلى أنه «من المعيب قول ما يلي» (...)، وبالتالي، فالمؤسسة غير معنية أبداً».
في ما ورد، نقاط عديدة يمكن لها أن تشعر المواطن العربي بالإحباط. فهو عندما يتابع خبراً مثل هذا، إن استطاع للإعلام وسيلة دون حجب وحجاب، فهو يرأف بحاله وبفقدانه لأبسط معايير المواطنية. وما يثير غضبه، هو الذي لا يتمتع بقضاء عادل وبحد أدنى من الحرية في أن يوجه لوماً وليس شتيمة إلى رئيس لجنة الحي في بلدته، أن محيطه القريب مليء بحاملي لواء مناكفة الغرب لأي سبب كان، الذين يرون أن مثالاً كهذا هو لتجميل صورة «الامبريالية الاستعمارية الرجعية المتهالكة...»، فينبري إلى شاشات تلفزيونات الحكومات (العامة) أو الحكّام (الخاصة)، ليعدد مساوئ هذا الغرب الذي تتفكك مجتمعاته وتتقيد الحريات فيه، مستندين في ذلك إلى مخيلة حافظت على تقاليدها التمويهية منتقلة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين دون أن تنسى المرور في إسلاموية متيقظة لكل انحلالات الأخلاق في الغرب والنائمة على كل انعدامات الحريات في الشرق.
المؤسسات المختلفة في دولة القانون، من قضاء عادل وعادي ونزيه، إلى مجالس منتخبة محلية وإقليمية وبرلمانية، إلى إعلام متنبّه ومتابع مهما اختلفت درجات النسبية، إلى مجتمع مدني يمارس دوره في التعاون أو النيابة عن المؤسسات الرسمية لإدارة بعض أمور العباد أو لممارسة الرقابة على الممارسات والتنويه والتوبيخ والإدانة... كلها وغيرها، تمثّل الهيكل الأساس لبناء دولة تطمح إلى التقدم والنمو الشامل لا الانتقائي، التقدم والنمو اللذين تفيد منهما العقول كما البطون وتُبنى على أساسهما المواطنية والانتماء.
ولكي يزيد الإحباط لدى البعض، نُمي إلينا أن المواطن الفرنسي المذكور، قد قرّر أن يحيل القضية إلى محكمة الاستئناف لأنه وجد تعسفاً في الحكم الصادر بحقه، رغم أنه حكم مع وقف التنفيذ. فهو يريد البراءة الكاملة والمطلقة، مقتنعاً بحقه الذي لا يُعلى عليه في أن يعبر عن رأيه في كل ما يخص شؤون البلاد، حتى لو احتاج الأمر لاستعمال الكلام الجارح. وفي حال أنصفه القضاء أكثر مما فعل، فالبراءة ستكون حتماً إدانة عارمة ومتحدية لكل الأنظمة التي تختزل المؤسسات وتستهين بفصل السلطات.
* باحث سوري