إنه النموذج الحي لابن الثورة الذي لسعته نارها حتى كادت تحرقه. رحلة طويلة من النضال عاشها فهيم حمزة، خيطها الناظم الوفاء لفلسطين وللناس. ورغم إصابة يده اليمنى في محاولة فاشلة لاغتياله، فقد امتشق المنجل يقلم به الأشجار ويصنع فحماً
بسام القنطار
تقاسيم يديه. أظافره، لحيته الكثة، وشعره المنسدل على كتفيه، كلها توحي بأن فهيم حمزة قرر في خريف العمر العودة للأرض التي بدأ رحلته بها.
يذكر ابن بلدة عبيه المولود عام 1952 أن خطوته الأولى مع النضال كانت عام 1967. «لم نكن نعرف ما معنى الهزيمة، صفقت للعرب رفضاً لانتقاص كرامة العرب. وشعرت بأنهم احتلوا منزلي عندما احتلوا القدس». يقول حمزة الذي لم يبلغ حينها 15 عاماً بعد. في سن الـ18 تأثر حمزة بخلية حزبية (حزب العمل الاشتراكي العربي) نشطت في البلدة. في إحدى حلقات التوعية قال المرشد السياسي للخلية: الاستعمار يفرض علينا المخدر لأجل أن يحكمنا ويستغل ثرواتنا. علقت هذه الجملة في رأسي ورغم أنني تعاطيت كل أنواع المسكرات في حياتي، إلا أني لم أتعاطَ المخدرات. كنت أتذكر جملة المرشد عن المخدر الاستعماري، فأتهيب.
عام 1968 هاجر حمزة إلى أفريقيا بحثاً عن الرزق. رحلته إلى القارة السوداء كانت «مهمة وصعبة، فيها أحياء وأموات وزوجة وأولاد من السكان الأصليين لليبيريا وسجن وترحيل». بحسب ما يصف حمزة.
ويضيف: «تأثرت هناك بالمناضل الأميركي الأسود «أوبي» الذي قاد ثورة اجتماعية في ليبيريا، ضد البيض وضد الاستغلال العنصري للسود وشنق في شارع برود في منروفيا».
يغضب حمزة وهو يتحدث عن الدور السيئ للبنانيين المهاجرين وانخراطهم الذي يصفه بالمشبوه في «جمعيات سرية ماسونية، وحياتهم البورجوازية واستغلالهم للسود». ويقول «كنت أقارن بين مرتبي البالغ 3000 دولار ومرتب العامل الأسود الذي لا يتجاوز 35 دولاراً. تعاطفت معهم، وتزوجت بامراة سوداء ورزقت بطفلة» قبل أن يعود قسراً إلى لبنان.
عام 1971 كانت المقاومة الفلسطينية بدأت تنشط في لبنان. فانخرط حمزة في دورة تدريبية في جبل الشيخ ضمن معسكر تابع لحركة فتح. فكرياً، تأثر حمزة في تلك المرحلة بالزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتحول إلى الثقافة الماوية وانخرط في «الحزب الشيوعي العربي»، لكن هذا التنظيم «سرعان ما اندثر وتحول مؤسسوه إلى الإسلام السياسي» بحسب حمزة. ويضيف: «كانت ردة فعلي السير قدماً باتجاه الفكر الماركسي الثوري، والانخراط في المنظمة الشيوعية العربية التي أجهضت أيضاً وأعدم معظم أعضائها في الأردن وسوريا».
15 كانون الثاني 1976 يوم محفور في ذاكرة حمزة. إنه اليوم الذي استشهد فيه ظافر الخطيب مؤسس رابطة الشغيلة، التي انخرط حمزة في صفوفها منذ نشأتها. يومها ولد ابنه البكر وأسماه ظافر، ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد يناديه باسمه، وصار أبو ظافر مقاتلاً في صفوف رابطة الشغيلة.
«استشهاد ظافر الخطيب ربطني أكثر برابطة الشغيلة، كنت في البداية ضمن اللجان الثورية وهي إطار جماهيري داعم للرابطة، ويشبه عملها الخلايا الثورية التي أنشأها لينين في روسيا» يقول حمزة. ويضيف: «دائماً أتذكر مقولة لينين بأن الجماهير لا تنتفض إلا نتيجة حس غريزي». مقولة يترجمها حمزة على طريقته الفلاحية «يعني يلي طالب الوعي من الجماهير متل طالب الحليب من التيوس».
يروي حمزة الكثير عن الحرب الأهلية: «قاتلت وأصبت في محور القماطية ـــ بدادون وفي الشياح». ويرى أن «الحرب لم تكن طائفية في بدايتها، بل كانت تحمل بعداً طبقياً، لكن القوى البورجوازية شعرت بأن الحرب ستقودها إلى صراع طبقي فحوّلتها إلى صراع طائفي».
يسترسل حمزة في سرد رواية اعتقاله في سوريا لمدة سنة ونصف. لكنه قبل أن يروي، يورد الجملة الاعتراضية التالية «رغم تجربتي القاسية في سجونهم لكني لست حاقداً على السوريين كما فعل غيري». متابعاً «حينها كنا ضد دخول القوات السورية إلى لبنان، وأردنا أن نقيم حكومة بديلة لحكومة الياس سركيس الشرعية». أما في السجن فيحكي حمزة عن لقاءاته مع المثقفين والكوادر من مختلف الاتجاهات «كنا ننزع ورق الألمينيوم من علب الدخان ونستخدمها في تعليم السجناء الأميين القراءة والكتابة. وعندما صادروا هذه الأوراق، ظنوا أننا نتراسل بالشيفرة مع الخارج، لكن هذا كان مستحيلاً. بعدها صرنا نكتب بنواة الزيتون على الحائط».
يذكر حمزة عشرات القصائد التي كتبها وأنشدها في المعتقل، ومنها قصيدة تقول: «اسجنوا الناس وإن لم تشبعوا/ أطفئوا الشمس ولوّنوا القمر/ وامنعونا أن نرى أحبابنا/ إنما الأضعف من ليس يرى. لم تعد أسماؤنا مقبولة لننادى بها فغدونا نمراً/ كدساً رزماً أحذية/ آه فلسنا بشراً. بلدي هذا زمن الريح /فما أقرب الإعصار أن ينفجرا».
مع بدء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 كان حمزة منشغلاً في عملية نقل الأسلحة إلى الجبل والتخطيط لعمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال. ورغم المخاطر الكبيرة التي شابت تلك المرحلة، إلا أنه نجح في تجاوزها ولم يعتقل. لكن الاعتقال كان في انتظاره في آب عام 1984 في منطقة رأس بيروت، ولكنه نجح من الإفلات من أيدي الخاطفين وأطلق عليه النار وأصيب إصابة بالغة في يده اليمنى عطبتها جزئياً. يرفض حمزة أن يحدد الجهة التي حاولت اختطافه، لكنه يعرف أسماء خاطفيه ومن يقف وراءهم. بالنسبة له فإن «الحادثة باتت من الماضي الذي جرى تبيضه مع اتفاق الطائف».
منذ عام 1992 تراجع حمزة تدريجياً عن الشأن الحزبي، وعاد إلى أرضه التي ترعرع فيها. زرعها ولا يزال، وخاض في فترة 1995ـــ2000 تجربة نقابية ناجحة عندما شارك في إنشاء نقابة العمال الزراعيين، ونجح في تنسيب ما يزيد عن 1500 فلاح من مختلف المناطق اللبنانية إلى هذه النقابة.
الزراعة ليست وحدها مصدر عيشه، فهو مشحرجي يقلم الأشجار ويخلصها من أغصانها الثانوية، ويستفيد من هذه الأغصان لصنع الفحم. باتت هذه المهنة شغله الشاغل، لكنها تجلب المتاعب لأنه يعمل «وسط مجموعة من التجار لا يرحمون الغابة ويقطعون الأحراج عشوائياً»، ما شوه مهنة المشحرجي حيث أصبح كل واحد عرضة للمساءلة من مأموري الأحراج.
ويختم: «مهمتي الحالية تعريف الناس بهذه المهنة المساعدة للغابة، لأنها تحميها من الحرائق. لقد أعادت لي الطبيعة الكثير من الذكريات، وخصوصاً عندما أسهر وحيداً قرب المشحرة طوال الليل. للنجوم لغة أحاول فهمها وكذلك صوت الليل. الغابة تضج بالثورة رغم هدوئها».


خيمة المهجرين

منذ أسبوعين، قرر حمزة أن ينصب خيمة على الطريق العامة لبلدة عبيه احتجاجاً على عدم دفع تعويضات البلدة المستحقة في وزارة المهجرين. وهو أكد لـ«الأخبار» أنه لن يغادر الخيمة قبل دفع الأموال للمستحقين. وأعلن عن البدء «بحملة إعلامية تدعو الناس لمقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة في حال عدم تحقيق المطالب».