كامل جابر
ينتظر صلاح الشيخة هدوء «الدويخة» من دورانها لكي يعانق حفيدته تالا التي يسترجع من خلال ابتسامتها وقهقهاتها المحلقة مثلها في الهواء، ذاكرة العيد في مدينة صيدا، التي كانت تدور تفاصيلها عند «بحر العيد» قبالة قلعة صيدا البحرية.
في المساحة الضيقة الباقية من الأرض يقوم اليوم بحر العيد «الشعبي» في صيدا، من ثلاث «دويخات» كبيرة و«شقليبة» وبعض الأراجيح «الزنازيق» و«الدويخات» الصغيرة. هذه الواجهة الباقية التي تشبه ذاكرة العيد في عاصمة الجنوب لا تروق كثيراً للشيخة البالغ 75 عاماً، «إنها معدات متطورة نوعاً ما تشبه ألعابنا التي كانت تحمل جميع أبناء المدينة وتأتي بهم من كل حدب وصوب إلى بحر العيد. فقد كانت كل هذه الساحة من محيط خان الإفرنج إلى القلعة البحرية، أي الطرقات والأوتوستراد البحري الذي ابتلع المكان لاحقاً، مفروشة بالرمل. وكانت تستقبل مئات الأولاد على عشرات «سراير الحبال» (الأراجيح المتقابلة بالمقاعد)؛ مع ألعاب وأراجيح خاصة بالإناث كانت داخل الخانات القديمة. ألعابنا وألعابهن كانت كلها طبيعية، من جسور خشبية تدخل إليها بعض الحسكات البحرية وحبال الصيادين».
ما يبقي على مراجيح العيد وشقليباته في صيدا، هم هؤلاء الناس «الفقراء» الذين لا قدرة لهم أو حول في قصد مدن الملاهي التي انتشرت لاحقاً في عدد من مدن الجنوب وعواصمه، أفقدت العيد «شعبيته» وتواضعه؛ فـ«الفرنك» الذي كان يتيح للصبي ركوب الأرجوحة أو أيّ من ألعاب العيد، في أي ساحة أو بيدر لا ينفع مبلغ العشرة آلاف ليرة في موازاته، اليوم.
صفات ونكهات كثيرة من تقاليد العيد تغيرت وتبدلت ليس في صيدا فحسب، بل في مجمل المدن والقرى الجنوبية، فبيدر مدينة النبطية الذي ظل إلى سنوات قليلة خلت يشهد بعض تقاليد العيد كإقامة الأراجيح ودواليب الهواء الضخمة، صار باحة للذاكرة لا يفقه تفاصيل أيام العيد في زواياها أو يتذكرها على مساحتها المتجاوزة عشرة دونمات إلا من تجاوز الأربعين عاماً، إذ تبقى ذاكرته حافلة بمجريات اليوم الطويل من تبديل «هوائيات» اللهو واستئجار الدراجات الهوائية وركوب الخيل، فضلاً عن بسطات اللعب والربح المتواضعة، المؤلفة من بضع وريقات من «ورق الشدّي» وزهر وفنجان، وبعض واجهات الحلوى الخاصة بالعيد.
والبحر يعطي للعيد نكهة خاصة لا يعرفها إلا سكان المدن البحرية. فأهل صيدا وصور اعتادوا ركوب المراكب السياحية المخصصة، قاصدين في صيدا «الزيرة» ومحيطها، وفي صور عرض البحر وليتسنى لهم مشاهدة مدنهم التي لا ينفك شكلها يتغيّر بعدما اجتاحتها الأبنية الإسمنتية الضخمة بعدما كانت الصورة الراسخة في البال تلك المؤلفة من بيوت جميلة.
ولكن كانت المرابع الأكثر ازداحاماً في أيام عيد الفطر هي دور السينما التي وصل تعدادها في الربع الأخير من القرن المنصرم في مدينة صيدا إلى أكثر من خمس، فيما لم تتجاوز الاثنتين في النبطية وصور. وكانت تواصل عروضها من الصباح حتى قرابة منتصف الليل، وتقصدها العائلات في ساعات المساء والليل، وتتفرغ في النهار للشباب والأولاد البالغين.
تتذكر آمال ظاهر (48 عاماً) كيف كانت تعتلي صهوة الأرجوحة وقوفاً على إيقاع «يا ولاد الكوشة، عنا جاروشة» وهزيج العيد وضجيجه غير المنتهي على امتداد أيامه، كل أيامه «يوم كانت الأراجيح» ودواليب الهواء تغطي مساحة بيدر كفررمان (النبطية) من أوله حتى آخره، بيد أن البيدر صار حياً سكنياً مكتظاً؛ والأراجيح ضيعت دربها عن كفررمان، من ربع قرن وأكثر، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت تحرم هذه المناطق الجنوبية، من صور إلى النبطية وبنت جبيل ومرجعيون، بهجة العيد وغيّرت وبدّلت كثيراً من عاداته وتقاليده بعدما عمّمت أجواء القهر والحزن وزيارة المقابر؛ وكفررمان صار أطفالها يتلهون بالألعاب المتطورة وأكثرها من أشكال الأسلحة وأنواعها، والمفرقعات التي تغيّب بهجة العيد من دوي انفجاراتها الضخمة التي تصم الآذان».