ورد كاسوحة *لو قُيّض للنائب وليد جنبلاط أن يمحو من تاريخه القريب موقفاً «أحمق» من بين عشرات المواقف التي اتخذها في حقبته الأميركية، فلسوف يختار «حتماً» تلك «النكتة» السمجة التي ألقاها على مسامع «الحضور الكريم» في american insttute.
وقد انطوت هذه «النكتة» (إرسال السيارات المفخخة إلى دمشق) على عنف لفظي أتاح لوليد جنبلاط حينها تصفية حساباته السياسية مع نظام «يكرهه» و«يحقد عليه»، ولا يفوت فرصة لتعنيفه ولومه على كل ما يحصل في لبنان من خروقات أمنية. فهذه المواقف بالنسبة إليه هي من صلب عدة التعبئة السياسية «السيادية» كما صرّح أخيراً لجريدة «الأخبار» في حديث مطوّل و«نقدي» للغاية.
أما وقد غدت النكتة الجنبلاطية «حقيقة» تراجيدية لم يكن ليتوقعها الرجل حتى في أسوأ كوابيسه، فالأرجح أنه لن يتحمل كثيراً عبء ارتداداتها السلبية، وسوف يسارع كعادته إلى نقض ترّهاته السابقة وملاقاة الجوّ «الوفاقي» السائد بالتصالح مع النظام السوري ذاته، بعدما صالح حلفاءه الأقوياء في لبنان. وقد «يباغتنا» مجدداً و«يفاجئ» أكثرنا تفاؤلاً بإبراقه إلى القيادة السورية معزّياً بضحايا الانفجار، ومستنكراً استهداف الدور السوري المحوري والأساسي في المنطقة!
ولا يخفى على أحد أن ما أوردناه للتو عن النكتة الجنبلاطية السمجة لا يعدو كونه تمريناً ذهنياً، الغاية منه إظهار مقدار الخفة التي يقارب عبرها بعض «الزعماء السياسيين» التقليديين طبيعة الصراع في المنطقة. وهي طبيعة معقّدة ودقيقة للغاية، ولا تتحمل لفرط حساسيتها توظيفات سياسية كيدية من النوع الذي أشاعه زعيم المختارة في وقت من الأوقات، حتى لو ارتدت هذه التوظيفات طابعاً «هزلياً» و«تهكّمياً» محضاً. ذلك أنّ الشماتة الجوفاء والفارغة بدمشق وناسها (لا بنظامها) قد تنقلب على صاحبها، وتدفع بعض السّذّج والخبثاء في «الطيف»
البعثي الفقير إلى «إدانته» (وهو ما لم يحصل حتى الآن لحسن الحظ) ووسمه بأفعال «لا يرغب بها»، ولا يقدر عليها أساساً.
هذه التوطئة اللبنانوية إذا صحّ التعبير للحدث السوري المؤلم، ما هي إلا دعوة لإقلاع أفرقاء المشروعين المتصارعين في المنطقة عن «تخرصاتهما المتبادلة»، والالتفات بدلاً من ذلك إلى المآل الخطير الذي يأخذنا إليه العبث الأميركي المستمر بالجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. وهو عبث من طراز متنقل، لا يكاد يحطّ في منطقة حتى يرتحل إلى أخرى، مخلّفاً وراءه في كل مرة مجتمعات متذررة ومحتربة ومنقسمة على ذاتها.
وليس صحيحاً على الإطلاق الزعم بأن الأميركيين وبيادقهم لا يعبثون إلا في الدول الهشة ذات الاستقطاب الطائفي الحاد كلبنان والعراق (بعد إسقاط البعث)، وخير دليل على ذلك الخروقات الأمنية المتكررة لسوريا، بدءاً باستهداف الموقع النووي المزعوم في دير الزور، مروراً باغتيال عماد مغنية والعميد محمد سليمان، وصولاً إلى تفجير القزاز جنوب دمشق.
فبخلاف الحالتين اللبنانية والعراقية الهشتين والمستقطبتين للنفوذ الخارجي، تتميز الحالة السورية بنسيج «دولتي» ومجتمعي «متماسك» إلى حد ما، وبدرجة معقولة من الاستقرار السياسي أملتها طبيعة النظام البعثي المغلق والقائم على توازنات فوقية سياسية وطائفية وعرقية.
والأرجح أن «العزوف» الأميركي المؤقت عن الساحة اللبنانية بعد المصالحات الهشة والفوقية التي شهدتها، ما هو إلا تكتيك يراد منه إراحة «الحلفاء» في لبنان قليلاً، قبل الولوج السياسي والاستخباري المفرط والمتوقع إلى «أم المعارك»، ونعني بها الانتخابات النيابية المقبلة المنوط بها إعادة الاعتبار إلى أيتام «ثورة الأرز» بعد سقوطهم المدوّي في أيار الماضي، فضلاً عن تحجيم الخصوم والأعداء الموالين لسوريا وإيران بعد صولاتهم وجولاتهم «الانتصارية» في حرب تموز 2006 وأحداث أيار 2008.
وفي ضوء هذه التحضيرات الأميركية الجارية على قدم وساق، وبدلاً من استمرار العبث غير المجدي في ميزان القوى اللبناني الراجح حالياً لمصلحة حزب الله وحلفائه حتى إشعار آخر، لجأت الإدارة المتهالكة في البيت الأبيض إلى حكمة عربية قديمة تقول: «إن آخر الدواء الكي».
والكي هنا كناية عن ضرب الحلقة السورية القوية التي تصل حزب الله بإيران. وقد غفلوا في هذا الخصوص عن حقيقة أساسية تتصل بجهلهم لطبيعة المجتمع السوري الذي يعوّلون عليه (لأسباب تتصل بتقديرات بيادقهم في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة) وعلى تناقضاته الطائفية والعرقية، أملاً بالوصول إلى حالة شبيهة بحالة التذرير والفوضى السائدة في العراق.
وهذه الحقيقة التي جعلتهم يقدمون على «تفخيخ دمشق» تقول: إن الشعب السوري رغم سخط بعضه على سياسات النظام الاستبدادية والإقصائية، لن يغامر بإرث عقود ثلاثة من «الاستقرار النسبي»، ويلهث كما لهث كثير من «المضطهدين» في لبنان والعراق خلف «الحلول» الأميركية التدميرية، ولو كلّفه ذلك الاستمرار لعقود مقبلة تحت حكم البعث الناقض لحريته الجمعية.
وللتدليل على صوابية هذا التحليل، يمكن رصد حالات الهلع الشديد التي انتابت السوريين بعد التفجير، ودفعت بكثير منهم على شاشات التلفزة ومواقع الإنترنت إلى إبداء الخوف من تكرار التجربة العراقية الأليمة في سوريا. ويغدو من المنطقي جداً في هذه الحال الاستثنائية استبطان «معظم» السوريين للخطاب الإعلامي الرسمي، الذي حاول هذه المرة بخلاف مرات سابقة أن ينهج نهجاً «مفتوحاً» بعض الشيء، ويفرد مساحة لا بأس بها على شاشتيه الرسمية والخاصة لآراء المواطنين وهواجسهم.
فمرتكبو هذه العملية فاتهم على ما يبدو أن رد فعل عامة السوريين على ما حدث في القزاز جنوب دمشق لن يكون مماثلاً لردود فعلهم السابقة على عملية دير الزور واغتيال عماد مغنية ومحمد سليمان. ذلك أنّ الأسف الذي أبدوه على ضحايا تلك الجرائم جاء متخففاً إلى حد كبير ومقروناً «باطمئنان» إلى أمنهم الجمعي. أمن لن تهزه تلك العمليات «الموضعية» و«المحدودة» مهما بلغت درجة إجرامها، ولن تنقض صورتهم الراسخة عنه.
ولن نذهب في التحليل بعيداً إلى حدّ القول إنّ صورة السوريين عن أمنهم الجمعي قد انتفت مع وقوع التفجير الأخير، لكنها حتماً تعرضت لأعطاب بالغة، تماماً كما تتعرض صورة الأمن في أنظمة مغلقة وكليانية مجاورة للاهتزاز (الجزائر والمغرب ومصر) دون أن يعني ذلك سقوط «الأسطورة الأمنية» أو إعطابها بالكامل، كما هي الحال في لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان.
لذلك يجوز القول إن الضربة التي أريد لها أن تضعف النظام في سوريا وتهز هيبته الأمنية قد جاءت بمفاعيل عكسية إلى حد كبير. مفاعيل شدّت من أزر النظام وأسهمت في استكمال كسر عزلته بعد القمة الرباعية الأخيرة في دمشق، بدليل البيانات الشاجبة والمستنكرة التي صدرت عن دول كانت حتى وقت قريب تضع العاصمة السورية على قدم المساواة مع بيونغ يانغ وطهران وسائر العواصم «المارقة» و«الداعمة للإرهاب». فإذا بدمشق تغدو بين لحظة وضحاها «شريكة أساسية في الحرب على الإرهاب» كما صرح في بيانه المستنكر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
ولمن يرجّح ضلوع «القاعدة» أو إحدى أذرعها في العملية الأخيرة نقول: هذا احتمال يجب عدم استبعاده، ولكن يتوجب علينا وضعه في سياقه المنطقي. فـ«القاعدة» عندما تضرب في بلد ما، تعلن مباشرة عن تبنيها لهذه الضربة، وهذا ما لم يحدث حتى الآن في الحالة السورية، ويرجّح ألا يحدث في أمد قريب. فالسياق الذي حدثت فيه العملية يمت بصلة وثيقة إلى الصراع الدائر في لبنان حالياً، أكثر منه إلى الصراع الذي يجري على الأراضي المغاربية والأفغانية والباكستانية.
* كاتب سوري