أنسي الحاجأسمهان (2)

نقل محمد التابعي عن والدة أسمهان، علياء المنذر، قولها له إن ابنتها لا تعرف الحبّ: «عمرها ما أَحبّت رجلاً ولن تُحبّ... صدّقني فأنا أَعْرَف الناس بها».
نأمل أن تفتح نهاية مسلسل تلك الفنّانة الشهيدة أول ملفّ حقيقي لوضع المرأة العربية، وهذه المرة، رجاءً، لا من زاوية حقوقها السياسية، وهي آخر ما يهمّ، بل على صعيد حقّها في التصّرف بنفسها جسداً وروحاً. نحن نعتبر أن أولى أولويّات ذلك الحقّ أن تستطيع المرأة ــــــ والمرأة العربية شأنها شأن غيرها من امرآت الأرض ـــــ إقامة (أو عدم إقامة) علاقات دون الخضوع لتأشيرة «الحبّ». لقد جُعل الحبّ مبرّراً بوليسيّاً، ولو لم تكن نتائجه فاجعة ومتناقضة تمام التناقض مع المقصود به انطلاقاً، أي المتعة والفرح والتفتح، لهان سوء الفهم ولبْس الأقنعة، لكنّه حبّ بالاسم وكراهية واضطهاد بالجوهر، وتبدو مصائب الزواج حياله أخفّ وطأةً لأنه لا يَعِد بما يَعدُ به الحبّ من تحليق خارج الزمن ومن ديمومة الحلم.
إذا كانت السيدة المنذر الأطرش قد قالت تلك الكلمة عن ابنتها «إميلي» (وهو على ما يبدو الاسم الأصلي لأسمهان) فالعبارة التابعيّة توحي أنّ القائلة تكلّمتْ بتأسّف وما يُشبه التنديد، والتابعي تَلقَّف كلامها كأنه يفضح المستور، والمستور قبيح والعياذ بالله. فكيف امرأة ولا تُحبّ!؟ وهل يُعقل أن تنجو من هذه السلاسل البرّاقة!؟ ومَنْ تكون؟ أفوق البشر؟...
نعتقد أن أسمهان، سواء بسيرتها العلنية أو المعاني غير المباشرة ولكنْ الصارخة لمن يريد أن يرى، لتلك السيرة، قد كتبت على جبينها ليلاً نهاراً أنّها حرّة، وتريد أن تبقى حرّة، ولا تستطيع أن تكون إلّا حرّة. «مخنوقة»، قالت ذات يوم لصديقتها، وظهرت كذلك في بعض أغنياتها، خصوصاً فيلمها «غرام وانتقام». خَنَقَها الجميع. ولم يكن بإمكان شقيقها فريد أن يكون لها وحده البديل ولا أن يفعل أكثر مما فعل، وخاصة أن له من طموحه الشخصي ما يغذّي انشغاله بنفسه.
ثمّة طبائع لا يرويها الحب وحده، وقد لا تستمرئ الحبّ بل ترى فيه مستنقعاً. طبائع لا يُشبعها حتّى تحقيق كل أمانيها، من الفنّ إلى السياسة إلى المال والسلطة والجاه. ثمّة من لا يرويه ولا خلوده وهو حيّ، ولعلّ ذلك يزيده إحساساً بهَبَائية الأشياء. النوازع الحميمة في تلك الطبائع، أكاد أقول النوازع السرّية الغائرة، وربما الخافية على إدراك أصحابها أنفسهم، لا تجد ضالتها في ما تواضع عليه البشر، لا زيجات ولا علاقات، لا مراتب ولا غايات.
وما كانت أسمهان لتجد ضالتها في شيء ولو وجدت كلّ ضالاتها: تلك هي احتدامات النفوس المتعطشة إلى مُطْلَق مجهول، تلك هي مأساة الطباع الفائضة عن أطُرها وظروفها والأقوى من احتمال أجسامها، ذلك هو جحيم من يصبو إلى سراب قلبه.
الأسمهانات المخنوقات ملأن ويملأن القصور والأكواخ والمدارس والجامعات في العالم العربي، وإن لم يَكنّ بموهبة أسمهان الصوتيّة فبحسنها وأكثر وإن لم يكنّ بهذه ولا بذاك فبحقّهن في السيادة على أنفسهنّ دون قمع ولا مصادرة ولا ختان عضوياً أكان أم نفسيّاً أم اجتماعيّاً. إذا من امتحان للكائن فهو قد يُقْبَل، مبدئيّاً، شرط أن يحصل بعد انسراح الكائن في ممارسته لحرّيته دون وصاية.
يوم كانت أسمهان تشقّ عصا الطاعة بشجاعة انتحاريّة كانت في مصر أسمهان أخرى، أسمهان الأدب وصالون الأدب اللبنانية الفلسطينية مي زيادة، تفعل الشيء نفسه. الأولى «اختنقت» في أوطانها جميعاً والثانية آذاها أقارب لها في بيت أبيها لبنان. لم يُعْدَم العالم العربي فدائيّين وفدائيّات، ولن يُعدم، لكنّ الضرورة هي إلى من يفتح كتاب الصمت على الجريمة ولا يغلقه.
المرأة العربيّة تحتاج إلى الحرية، ولها أن تختار الحبّ في حرّيتها أو تختار صيغاً أخرى لأهوائها وعلاقاتها. الأهمّ من «وقوعها» هي في الحبّ، أن تُلهم الحبّ وتوحيه، ولا أحد يُلزمها أن تلتزم إلّا ما يضاعف على الدوام حجم انطلاقها، وتظلّ بفتنتها فوق الأسْر، منعتقة جَسَداً هائماً على نَشْواته.

صدق، أمل

مقابل قوّة التجبّر هناك نوع آخر: قوّة الانحناء، الانحدار، السقوط. حُمّى التفوق وحمّى التدهور، الوَصْلَة بينهما غير محتَّمة ولا ثابتة، وإذا انوجدتْ في الشخص الواحد تَوطَّد اقتناعنا بأن له عينين لا عيناً واحدة، وتقلّصت حياله وحيال مواقفه شبهة التصنُّع.
حقارة الكبير تؤكّد صدقه وعظمة الحقير تطيل عمر الأمل.

ليتهم فعلاً جبابرة

في دوافع مفكّري القوّة دعاة الجبروت محتقِري الشفقة: لا نشْدان السوبرمان (فقط) بل محاولات للهرب من أوقات انهيارهم، هُم. دعوة الضحك أيضاً. الضاحك ليس بحاجة إلى من يُفلسف له الضحك حتّى يَضْحك. ضحكُ المتضاحك أقرب إلى اللطْم.
ليست الغاية التقليل من قَدْر دعاة الجبروت، الذاتي منه أو الموضوعي. ما يُساعد الكائن المسكون بوحدته هو خير مما لا يساعده وسَكْرة القوّة، مثل كل سَكْرة، انتصار على قطعة من الوقت وعلى افتراسٍ ما. الانتصار رمزياً بالطبع، فما من انتصار آخر.
الأشدّاء الفعليّون قساة دون أزمة، وليسوا بحاجة إلى منظرين.
أغلب الظنّ أن كثيرين من أنبياء القوّة وفلاسفتها لم يكونوا جبابرة إلّا أمام طاولة الكتابة، وفي بخار الرأس، حيث الانتقام الوحيد.

أرباح وخسائر

«عم يعقصوك هالقرشين بجيبتك؟» تنبيه رافقني منذ إطلالات قروش الأهل على جيبي الصغير. كان أبي يعرف ما به وعرف ما بي، ومع الوقت فاق تبذيري تبذيره واستهتاري استهتاره، على أنّه كان حكيماً عند استهزائه. وهذا موضوع آخر.
لم يقتصر جنوح إنفاقي عليّ بل أصابني مرات دون معرفتي. حمل إليّ صديق قبل أيام كتاباً للأستاذ جان الِكْسان صدر في دمشق عام 1987 تحت عنوان «الرحبانيّون وفيروز»، وكنت قد طالعته وعدتُ إليه مراراً للتوثيق. وإذا بالصديق يفتح الكتاب على صفحاته الأخيرة الحاملة لعناوين بعض المراجع ويسألني «هل تذكر أنك أدليت بهذا؟».
كان يسألني عمّا ورد في أحد المراجع، وخلاصته مقابلة (أو مقالة؟) في جريدة «الأنباء» (الكويتية؟) متسلسلة على أسبوعين، من أيّار إلى حزيران 1985، تحمل اسمي وتحت عنوان «فيروز والرحابنة، حكاية وطن وتاريخ جيل». ذهلتُ وظلّ فمي مشدوهاً لثوانٍ. عام 1985 كنت هارباً إلى منطقة من لبنان لا تصل إليها الصحف، ولم يكن الإنترنت قد دَرَج بعد. لا أذكر أني وقّعت شيئاً عن الرحابنة وفيروز، منذ مرض عاصي الرحباني، حتى ولا كلمتي عنه في رحيله، إلّا بعد نشرها في إحدى المجلات ببضع سنوات، يوم ضممتها إلى مجلدات «كلمات كلمات كلمات». وهناك مقال بعنوان «شاعرة الصوت» كتبتُه لبرنامج فيروز الأميركي عام 1981. من هو صاحب اسمي في تلك الجريدة؟ هل هو أنا في إحدى غيباتي؟ أم بكامل وعيي وكامل نسياني؟ الأرجح أن ثمّة من مان عليّ مونة الكهف على أهل الكهف. ولعلّي بدون حيْف أعرف من هو، وهو صاحب عزيز، أنفق من اسمي ما طاب له في أصقاع الخليج، ربّما خدمة لشهرتي وله الشكر، وربّما أيضاً لثقته بأني، نظراً لانعدام التواصل بين أقطار الأمة تلك الحقبة، لن تقع عيناي على ما أبدعه قلم سواي بلساني واسمي. وفي بعض المرّات أنطقني هذا العزيز بأفضل مما أنطق وتمنيت لو كنت أُجيد جبرانيّاته وأنا بها غشيم.
... الإنفاق انفجار الطاقة السلبيّة، على ما يقول العلماء. وهو هنا سالب نفسِهِ، مُتْلف ماله، فضلاً عن أعصابه وصحّته. ألا يجوز للإنسان ما يجوز للثور والبركان؟ إذا قلنا الإنسان عاقل منحناه ذريعة أكبر لتبديد الذات: الثور يهيج وينطح الأرض لأنه «لا يعرف»، والبركان يطيح قواه ويَنْفَلش لأنه أعمى، أما الإنسان فيعرف.
الشمس، كما يقول جورج باتاي في أبحاثه الأنتروبولوجيّة، هي الصورة الكبرى للتبذير، لأنها تمنح الطاقة دون لقاء: «انها تعطي وأبداً لا تأخذ».
والطاقة الشمسيّة هي أول شكل من أشكال الثروة. ما لا أعرف إذا كان باتاي يقوله هو أن الإنسان عندما يبدّد ذاته وينفقها بلا حساب قد لا يفعل ذلك بحركة جموح عمياء وأعمى بل ربّما خامره لا شعورياً اطمئنان غامض إلى أن ثمّة أبوّة في الكون ستحميه وما يُنفقه، معرّضاً أمنه وحياته وغير مدّخرٍ بديله، لا بدّ أن يعوّضه إيّاه شيء، غيب، إن لم يكن لأنه يستحق فلان قانون التوازن الطبيعي بل الغريزي يستوجب ذلك.
الإنفاق إفناء ذاتي مبكر، بالتقسيط. هو حَرْق كبريت بَدَل حرق الغابة. وهو كالجنس خارج التناسل. ولعلّ المرء عندما يمضي يأسف شديد الأسف على هذه الخسائر التي لم يعد بإمكانه أن يربحها، أو تلك الأرباح التي لم يعد بإمكانه أن يستمتع بخسارتها.