من منكم لم يسمع عن أوشوايا، هذا المكان البعيد البعيد؟ أوشوايا، تسمية ارتبطت في أذهان عشاق التلفزيون بنيكولا أولو، المغامر الفرنسي الذي جعل برنامجه في التلفزيون الفرنسي يحمل اسمها

جلنار واكيم
الرغبة بالمغامرة حملتني إلى نقطة قريبة من القطب الجنوبي. من بوينس آيرس استقللت الطائرة في الرحلة لأربع ساعات، أي ما يوازي المسافة بين لبنان و فرنسا. أربع ساعات، في بلد واحد! أمر يبدو في منتهى الغرابة لشخص آتٍ من دولة صغيرة. وصلنا فوق أوشوايا. وكان هبوط الطائرة أشبه بلعبة الجبال الروسية، نزلت بشكل عامودي. فالجبال مرتفعة من كل النواحي، تحيط بالمدينة وبالقناة التي تربط المحيطين الأطلسي والهادئ... ثم ها نحن نطأ أخيراً أرض عاصمة «تييرا دي فويغو»، إنها أرض النار كما سمتها قبائل اليامانا الهندية.
أوشوايا جزيرة تربط جنوب تشيلي بالأرجنتينن. وهي الأقرب إلى «انتاركتما» في القطب الجنوبي، تفصلها عن القارة الجنوبية قناة بيغل. لهذه القناة أهمية تاريخية واستراتيجية. فهي تربط المحيطين الأطلسي والهادئ، وفيها مرّ قارب بيغل الإنكليزي في القرن التاسع عشر. أوشويا التي تحيط بها المحيطات وتعلوها الجبال من جهة وتكثر فيها البحيرات أشبه بجنة على الأرض.
استقللنا مركباً متوسط الحجم، وانطلقنا في رحلة تعبر القناة وتروي تاريخ هذه المنطقة النائية. القناة عريضة جداً ـ تفصل من جهة التشيلي، ومن جهة أخرى الجزيرة الأرجنتينية. وهنا تتعايش الطبيعة مع الإنسان بشكل ملائم تماماً. هنا نشاهد العديد من الجزر الصغيرة، حيث تعيش حيوانات مختلفة مثل أسود البحر والبطريق والفقم وطيور لا تخاف البشر، وتروح تلحق بالقوارب. طيور تطير فوقنا والفقم تسبح وتلعب من حولنا و لا تخشانا.
بعد القناة، كان لنا زيارة لإحدى أكبر المحميات الطبيعية في العالم. والأمر الغريب في هذا المكان أنه محاط بالبحار تارة، وبالبحيرات تارة أخرى. أذكر أننا لم نعد نميز البحيرات عن البحار لكبرها. أما لمحبي الصيد، فلا شك أن زيارة هذا المكان ليست ممتعة، فهو ممنوع من اصطياد حيوانات برية رائعة الجمال، فالطيور تطير على مقربة من الزوار، والغزلان تمر جنب السيارات دون خوف.
هذه المدينة المعزولة والرائعة الجمال، تذكّر زائرها بتاريخها المرير، فقد قامت بدايةً حول سجن للمجرمين الخطيرين والسفاحين وأشخاص يعانون اضطرابات نفسية خطيرة، تماماً كما فعل الإنكليز في أوستراليا و الفرنسيون في جزر الشيطان. ثم تحولت «أوشوايا» إلى سجن سياسي، يُرمى فيها معارضو السلطة الحاكمة ومفكرون وكل من تنسب إليه تهمة تهديد النظام، أما حالياً، فقد صار السجن إلى متحف يروي قصة المدينة بأسرها.
تأسست المدينة عام 1898، أي عندما تأسس السجن. سكانها اليوم 50 ألفا، أما السكان الأوائل فكانوا خمسين شخصاً يعملون كلهم في السجن. لا مجال للهروب من هذا السجن. فالمغامر نصيبه الموت في الشتاء من شدة البرد، أو مهدداً من حيوان مفترس. أما في الصيف، فكان الأمر ينتهي به عائداً من تلقاء نفسه. لا حياة خارج السجن والزنزانة تبقى خير مأوى في حالة كهذه. ومن المشاهير الذين سُجنوا فيه مغني التانغو كارلوس غارديل و النائب الأرجنتيني المعارض نستور اباريسيو، والنواب بدرو بيديغين وارتورو بنافيديسو كارلوس مونتيسز. حوّل السجن إلى متحف، و لم يبقَ من الماضي إلا صور على الجدران، لسجناء باللباس المقلم بالابيض والأسود.
سكان أوشايا يشدونك إليها، أناس بمنتهى اللطافة، يبدون كأنهم يعيشون خارج الزمن، ولا يهمهم ما يحدث في العالم. كثيرون منهم تركوا العاصمة الأرجنيتينة بحثاً عن حياة أكثر بساطة. هكذا فعل سيباستيان وماريا، ثنائي تعرفنا إليه في الفندق الصغير الذي بنياه وحيث أقمنا. فبعدما تابعا دراستهما في بوينس آيرس، قرر الزوجان الشابان أن يتركا العاصمة وتوجها الى أوشوايا. و منذ ذلك الحين لم يفارقا هذه المدينة. افتتحا فندقاً « تيرا دي ليجينداس» الصغير، أي أرض الأساطير. و يؤكد سيباستيان أن مستوى المعيشة في أوشويا أفضل منه في العاصمة، «فالناس هنا لا يدفعون الضرائب بل على العكس، تساعدهم الحكومة للبقاء في هذا المكان البعيد». ويضيف سيبستيان إن أوشوايا مكان تصعب مغادرته، فيه سحر لا يمكن تفسيره، و يُشعر زائره بنوع من السلام الداخلي الذي لم يعرفه من قبل. أبناء أوشوايا لاتينيون يحبون الحياة. فهنا تكثر المطاعم و أماكن السهر و الرقص.
أما الهنود الحمر أو السكان الأصليون، فلهم أيضاً قصة مأساوية يرويها سكان اوشوايا. إذ لم تبقَ منهم إلا الأسماء التي أطلقوها على المدينة، بعدما أبيد معظمهم على أيدي المستعمرين الإنكليز، أما من بقي فقد ماتوا عندما قررت الكنيسة الكاثوليكيةُ إنقاذهم، فأرسلتهم إلى المعرض العالمي الذي كان يقام في باريس، حينها ماتوا جميعهم بمرض الرشح.
السكان الحاليون يكنون احتراماً كبيراً للسكان الذين سبقوهم. لذلك قرروا أن يرووا قصتهم لكل زائر، و قد حافظوا على أسماء الأماكن كما سماها الهنود من قبلهم، كما حافظوا على بعض التقاليد المعيشية للهنود الحمر.
بالنسبة إلى السياح تمثّل الرحلة مع الكلاب غواية جميلة، فتجرهم الكلاب في الغابة وسط الثلج. هكذا انطلقنا مقنّعين بالمعاطف من شدة البرد. الرحلة تنطلق في منتصف الليل، قادتنا مصابيح المرشد وغريزة الكلاب. وبعد المغامرة الأولى استقبلتنا مغامرة جديدة. خيمة هندية في فسحة بين الجبال. هناك جلسنا نأكل اللحوم الأرجنتنية المشوية على الفحم ونشرب النبيذ الساخن. أمّا المرشد، فيخبرنا قصصاً عن اليامانا، كيف عاشوا هنا بسلام وكيف كانت علاقتهم بالطبيعة متجانسة تماما. وانتهت الرحلة بنومة هانئة على سرير من الثلج، تحت سقف من النجوم حيث الحلم يتحول إلى هاجس. ترى هل نعود يوماً لنستقر هنا، كما فعل سيبستيان وزوجته، ولنصبح نحن أيضاً أوشيويين؟.


سياحة بديلة؟

لا ترد أوشوايا وأخواتها على لوائح الأماكن السياحية المفضلة بالنسبة إلى اللبنانيين، فنحن نبحث عن الرفاهية والفنادق الفخمة، وننسى أن اكتشاف الطبيعة «العذراء» قد يكون مغامرة جميلة تطبع في أذهان السائح صوراً لا ينساها أبداً. الرحلة إلى هذه المنطقة الأرجنتينية لا تكلف السائح المال الكثير، فهي تتطلب فقط شجاعة وأن يتمتع المرء بحب الاستطلاع، وأن يقتنع بأن العالم لم يصبح قرية شوارعها متشابهة