من الهندسة المعمارية إلى التصوير الفوتوغرافي، عين تنقّلت بين دروب وطن ممزق وشوارع باريسية واسعة، لتلتقط من المشاهد لحظاتها الآنية المضيئة، وانفتاحها على جميع الاحتمالات. دانيال شيخاني، فنانة شديدة الواقعية ترفض المساومة على الحلم
رنا حايك
من المستحيل محاصرة المهندسة المعمارية والمصوّرة الفوتوغرافية دانيال شيخاني أو مصادرة موقفها بهدف تعليبه في خانة بعض التصنيفات الجاهزة.
تمتنع هذه المرأة الخمسينية عن الوثوق باللغة. تستخدم عباراتها بحذر شديد رغم انسيابية حديثها، وتحرص على الفصل بين العام والشخصي. إحساسها تنقله بالصورة التي تلتقطها لا بالكلام، ليبقى الصمت، بالنسبة إليها، هو الركن الآمن وسط ازدحام التعابير المفخخة.
ولدت عام 1955، وسرعان ما افتتنت بكلمة «ديزاين» (أي تصميم) كما تقول. فهذه الكلمة وحدها كانت كفيلة بفتح باب مخيلتها على مصراعيه. وبما أنها التحقت خلال سنوات الدراسة الثانوية بفرع البكالوريا العلمي، كانت الهندسة بالنسبة لها أقرب اختصاص يجمع بين الفن والرياضيات. بدت سنوات التّخصص الجامعي، كما تصفها، «ملحمية»: تطلّب نيل الشهادة تسع سنوات بدل أربع. وإنجاز المشاريع استلزم شمعة ولمبة نيون. فالحرب الأهلية أخّرت تخرّجها إلى عام 1983 ومنعتها من إيجاد عمل في مجال اختصاصها بعد الحرب، فلبنان لم يكن «راجع يتعمّر بعد». لم يمنع ذلك دانيال عن العمل تماماً. فقد وجدت ما تقدّمه لهذا البلد المستعر: عملت مع الصحافيين الأجانب كمنسقة في المجال التنظيمي، ولم تلتقط صوراً عن الحرب «لإنو ما كان إلي عين صوّرها»، نقلت أدوية بين المنطقتين الشرقية والغربية، وأوصلت رسائل عائلات فرّقت الحرب أفرادها بين جنوب وبقاع، إلى أن اتخذت قرار الرحيل عام 1985. قرار امتعض منه الأهل لكن وافقوا عليه لأنه سيتيح لهم أخيراً الاطمئنان على ابنة كانت تطفئ أنوار سيارتها خوفاً من القناص وهي عائدة إلى المنزل في ساعات الليل المتأخرة.
فرنسا كانت فرصة لإفراغ جعبة دانيال من الدموع: «لم أكن أدرك أنني راكمت هذا القدر من العذاب، وعاهدت نفسي أنني لن أعود إلى لبنان قبل أن أفرغ كل ما بي من دموع محبوسة».
لم تكن تعرف أحداً هناك. قضت العام الأول في إفراغ دموع «نشفت وما خلصت». كانت الحرب قد حفرت عميقاً في روحها: صوت المترو كان يرعبها. صوت المفرقعات خلال الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي كانت تبكيها. ومفاتيح المنزل مثّلت أمانها الوحيد. كانت تتحسّسها في «شنطة» يدها كل خمس دقائق لتتأكد من أن لها بيتاً تعود إليه. ففي بيروت، لم تكن المفاتيح تعني الكثير، ووجودها لم يكن يعني بالضرورة إمكان العودة إلى المنزل!
تطلّب نضوب جعبة دانيال من الدموع عشرين عاماً من الاغتراب. عملت خلالها في الهندسة وأعادت خلالها صياغة علاقتها بالصورة: فبدل أن يبقى التصوير وسيلة لخدمة الهندسة، استقلّ وأصبح هواية ثم مهنة قائمة بذاتها. بدأت رحلة التصوير مع دخول دانيال عالم الروحانيات: فبعد تغطيتها مهرجان الموسيقى المقدسة في مدينة فاس بالمغرب، قضت عاماً كاملاً بصحبة فرقة من الدراويش المولويين الأتراك كمصورة حصرية لهم.
«الصورة هي آخر ما يهمني في الصورة» تقول. «كما في حركة الدراويش الجسدية خلال أداءاتهم التي يفردون فيها أياديهم من الناحيتين، أمرّر خلال التقاطي الصورة إحساساً حلّ في لحظة محددة».
لا يهم أن تنقل الصورة مشهداً جميلاً، المهم أن تنقل إحساساً. لذلك تمتنع دانيال عن تصوير الأعراس، إذ إنه «من المستحيل أن أساوم على حريتي حين أصوّر». وفي الأعراس لا ترتكز الصورة على إحساس المصوّر بل على اللقطة التي ينتظرها الآخر، ما يصادر على إحساس المصور وخياله.
على عكس الأعراس، لا تتعارض فنية الصورة مع اعتماد التصوير كمهنة. فقد جابت دانيال مع فريق من السينمائيين صحراء موريتانيا لعشرة أيام. نامت خلالها في كيس النوم واستسلمت لما تسميه «مدرسة الصحراء» التي تتجاوز توصيفها كمجرد تجربة. ففي الصحراء، «يعود الإنسان إلى الجذور، إلى الأساسي. ويعود إلى منزله راغباً برمي جميع ممتلكاته. الصحراء تغسل الروح وتنقّيها».
لم ينتزع التصوير دانيال من مهنتها كمهندسة، ولم ينتزعها الاغتراب من انتمائها لوطنها. فقد أسّست في فرنسا مع زملائها «جمعية المهندسين اللبنانيين» تحت اسم «أرجوان» وتكرّرت سفراتها إلى لبنان حاملة معها مشاريع توفّق بين إعادة الإعمار والحفاظ على التراث، مع تعهدات بتمويلها من مؤسسات أجنبية. جابت الوزارات والهيئات المختصة، آملة تفعيل «المقومات الهائلة التي يمتلكها هذا البلد ليكون قوياً». لكن الجولات لم تفض إلى نتيجة. ترفض التعليق على ذلك سوى بجملة مقتضبة: «كنت حابة ساعد لبنان باللي تعلمته برا لكن ما لقيت تجاوب».
لم يحبط ذلك دانيال ولم يثنها عن قرار العودة الذي اتخذته عام 2006 مدفوعة بإحساسها بأنها «متوسطية. شبعت من أوروبا واشتقت لحالي كعربية». أما العدوان، الذي وقع بعد وصولها بأيام عدة، فلم يسبّب لها أي إحساس بالندم على العودة. «رغم الكارثة التي حلّت، كنت سعيدة لأن هذا هو المكان الذي يجب أن أكون فيه في هذا الوقت. كانت إسرائيل تقصف بينما كنت غارقة في ورشة ترتيب منزلي الجديد وزراعة نباتاتي على الشرفة».
تعترف دانيال بأنها تدفع ثمن عودتها غالياً، لكنه ثمن التصالح مع النفس. كثيرة هي مآخذها على المجتمع اللبناني الغارق في الماديات وفي دوامة الاستهلاك، وعلى الدولة المتنازلة عن دورها في حفظ أمان المواطن وتأمين الخدمات الضرورية له، لكن الأكثر منها هو إيمانها بـ«طاقات الشباب اللبنانيين من الجيل الجديد». فهو جيل يجب الالتفات إليه وتشجيع محاولاته الدائمة في تجاوز دوامة الحرب والعنف وذاكرتهما.
هو جيل تتعرف إليه منذ سنتين. فهي لا تعيش في الماضي، وكل لحظة بالنسبة إليها تحمل احتمالاً جديداً، لذلك لم تفتح دفتر التلفونات القديم حين عادت ولم تتصل بأصدقائها القدامى، بدل ذلك، تعيد بنفسها التعرف على بلد ومجتمع عاشت بعيداً عنه لسنتين رغم زياراتها المتواصلة للبنان. وحين شاركت في المعرض الأخير للـ«غاردن شو»، لفتها أن 95% من المارة لا ينظرون إلى الجدران إذا لم يكن أمامها طاولة عرض عليها مواد استهلاكية، لكن أسعدها 5% منهم «يحلمون». هؤلاء، يجب الحفاظ على الحوار والتواصل معهم، لأن «البلد الذي لا يحلم يصبح كارثياً».


أحدث المشاركات الفنية

تتحضّر دانيال للمشاركة، بمجموعة الصور التي التقطتها عن الصحراء، في معرض «باريس آرت» الذي سيعقد في أبو ظبي بين 17 و21 تشرين الثاني المقبل. وقد اختيرت إحدى صورها لتتصدّر الإعلان عن المعرض العالمي الذي يفرد مساحة خاصة لفناني العالم العربي تحت عنوان «الحركة والتواصل.. الأسفار عبر الصحراء والبحار» بهدف تعزيز الحوار بين الشرق والغرب.