فايز فارسالديموقراطية هي قبل أيّ شيء آخر، منهج ونظام وآلية تطبيق، أكانت تنافسيّة أم توافقيّة أم إرضائية. هي في الأساس عملية تنافسيّة تهدف إلى تحقيق التوافق consensuelle. وفي حال الفشل تتحول إلى إرضائية conciliatrice. لأن العمل السياسي في معناه الراقي مثله مثل أي حركة إنتاجيّة، زراعية أو حرفية أو صناعية أو تجارية، يحتاج إلى فكر ورؤية وتخطيط وتنظيم وتسويق وروح تنافسية ومساحات حوار من أجل تحقيق الأفضل، أي التوافق على تحقيق أهداف وغايات جامعة وذات منفعة عامة. وفي كل مرّة أخفق فيها اللاعبون في التوصل إلى تحقيق التوافق، لجأوا إلى تطبيق ما أسميه الديموقراطية الإرضائية، أي اقتسام مواقع السلطة حصصاً في ما بينهم، استناداً إلى آليّة تعتمد بدورها على خليط من الأحزاب الطائفية والمناطقية والقطاعية.
على هذه المبادئ وهذه الأسس قامت الحياة السياسيّة ونمت في لبنان منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا. ولم تتمكن كل حركات التحرر وما أنتجته من أحزاب عقائدية وجمعيات مدنية، من إحداث تغيير ما أو تطبيق إصلاح لأوضاع شاذة. وذلك بسبب انهماك كل التغييرييّن والإصلاحيين بقضية تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني، والتي دفعت بالقادة والشعوب العربية إلى السعي من أجل تحقيق الوحدة العربية كشرط أولي لإنجاح عملية التحرير. ولم يشذ اللبنانيون عن هذه القاعدة.
كما لم تكن فترة حكم الرئيس فؤاد شهاب التي اتّسمت بطابع إصلاحي بنيوي من تحقيق تغيير قابل للتطور والنمو بسبب انشغال إدارته بمعالجة تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها قادة حزب قومي وحدوي أولاً، ورفض الطبقة الحاكمة آنذاك للإصلاحات التي أرادها الرئيس شهاب ثانياً. ويدفعنا كل ما تقدم للقول إن لبنان لم يشهد يوماً فترة زمنية ليتسنى خلالها لشعبه التعرّف على فكرة الديموقراطية والتدرّج على ممارستها من أجل تحقيق الشرط الأول لقيام الدولة العادلة وبناء المواطن اللبناني المسؤول، عنيت به السلم الأهلي أو السلام المدني la paix civile.
إنّ مشكلة لبنان الأولى تكمن في موقعه الجغرافي المميّز ومساحته الصغيرة وقلّة موارده وكثرة طوائفه التي تلجأ إلى «الديموقراطية التوافقية» من أجل تغليب مبدأ المساواة في ما بينها، مهما صغرت أحجامها أو كبرت. لأن أغلبية الدول والمجتمعات تقوم على التعدديّة والتنوع في أديانها وأعراقها وأجناسها وثقافاتها وحضاراتها، لكنها تمتلك ثروات طائلة وتتمتع بمساحات شاسعة وأنظمة حكم مدني.
إنّ ما يحتاج إليه لبنان واللبنانيون هو قبل كل شيء هو قادة مدنيون وروحيون مستعدون، متفقون أقلّه على تغليب المصلحة العامة على حساب المصالح الخاصة والتنازل بطريقة ما عن كل ما سلبوه وسرقوه وخطفوه من أموال منقولة وغير منقولة، ومكاسب فئوية، وامتيازات شخصيّة، وألقاب مزيفة، ولوحات مزوّرة، وحصص طائفية ضيّقة، وإعادتها إلى الدولة من أجل إعادة بنائها وإعمارها وتحصينها واتخاذها المرجعية الثابتة الضامنة للحقوق والواجبات.
فهل سيبادر قادة لبنان وسياسيوه إلى تحقيق هذا التغيير والإصلاح وبهدوء وسلام، أم سيخضعون عاجلاً أم آجلاً إلى إرادة شعب لبنان المتعطش إلى أي شكل من أشكال التغيير والإصلاح، لأن الكيل قد طفح منذ زمن ليس ببعيد؟