أحمد محسنأذكر أن صوتي كان يرتجف دائماً في طفولتي، وأن الفراشات كانت تزور منزلنا القروي كثيراً. وأذكر امرأةً في شبابي، علّمتني الحاسة التاسعة، وأن ثمة أموراً تحدث. أذكر أن للأزرق خمسة ألوان، وأن عمري كان في بدايته. كان في فمي أسنان، سقطت يوماً، وضاعت في البحر. وكنت أملك نهراً وغيمتين، ووسادة، وشيئاً في داخلي لا أجد له اليوم اسماً. وأذكر أني رأيت ذات تشرين شبحاً يستعمل حاسوبي، وعارضة أزياء تخرج من ملابسي. رأيت امرأةً لا أعرفها في سريري، وقد فتحت فمها، وبدت ناعسة. أذكر أني كنت أتعاطى الممنوعات، فلتأتِ «الشرطة» وتعتقلني: أنا أعلن الآن في الصحف. ذات مرة تسلقت الحائط، بصقت عن الشرفة. ذات مرة أخذت أربع حبوب هلوسة دفعة واحدة، وضربت عجوزاً. وذات مرّة سرقت دراجة نارية، فلتأت الشرطة أيضاً.
كانت الأيام كعقارب الساعة، تعمل وفقاً لما أُعدّت له. أمي تعدّ لي طعاماً، وتشتم الساسة في الخارج. وكانت أحلامي قليلة، لأني لا أنام كثيراً. أعّوض عنها بالابتسام الكاذب. كنت أقرأ الروايات الطويلة، وألعب كرة القدم. أعزف على البيانو بنهم، وأقبّل أنامله بأناملي. أنا إنسان منذ عشر سنوات وأكثر، في عالم من فوضى. تباً لصانعي الكحول والتبغ: سأموت قبل الموعد المحدد.
كان الله شاعراً، والمطر نبياً يبشّر بالحياة. أذكر أني صلّيت في المسجد يوماً. عند طلوع الصبح، وقرأت القرآن بتمهّل. كان هناك رجل يقف في المحراب، وكان يبكي. من يبكي أناساً كثيرين يموتون جماعياً في هذا البلد؟ من يذكر أحجام راحات كفوفهم، وألوان عيونهم؟ الناس هنا يصبحون أرقاماً خالية من التعابير الإنسانية.
صرت اليوم نسخة عن الآف الأطفال الذين لا يملكون غدهم: نمت لي مخالب قاسية. أكره نفسي في المرآة، وقد أصبح ذئباً، يمشي نحو موته مبتسماً. يكفيني في الوجود أني اخترعت قمراً في غرفتي. فلتضعني الشرطة في حديقة الحيوانات، وليُشر الأولاد إلى أذنيّ بأصابعهم الصغيرة.
هكذا كنت قبل خريفين. واليوم، أقرع أبواب الجحيم، أنا الطارق بالمخالب والوجه الدامي. لقد اخترعت قمراً، فاعتقلوني. أريد مفرّاً من رؤية بيروت في هذا الشلل. أقرع أبواب الجحيم بقوة، فهل تفتح؟.