حسام تمام*التغييرات التي شهدها حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المغربي تتجاوز كونها شأناً حزبياً داخلياً أو حتى وطنياً، لتشير إلى تحوّلات يمكن أن تشمل الحالة الإسلامية في المغرب والوطن العربي والإسلامي. لقد كان تصويت قواعد الحزب في انتخاباته الأخيرة ( تموز / يوليو 2008) ضدّ الأمين العام للحزب سعد الدين العثماني وإسقاطه لمصلحة عبد الإله بن كيران أبعد من مجرد تعبير عن قدرة الحزب «الإسلامي» على التداول الديموقراطي على السلطة على نحو ما يفاخر به قادته، معتزّين بخصوصيتهم في الحالة الإسلامية المتهمة بغياب الديموقراطية الداخلية.
كما هو أبعد من مجرد رغبة القواعد في التغيير بعد دورتين وعشر سنوات قضاها العثماني أميناً عاماً للحزب (1998ـــ2008)، وهو أبعد أيضاً من كونه تصويتاً عقابياً على ما بدا من فشل الأمين العام من تحقيق وعوده بتصدّر النتائج في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (أيلول/ سبتمبر 2007) وحلول الحزب ثانياً بعد حزب «الاستقلال» الذي ألّف الحكومة بعدما كانت كل التوقعات تذهب بها لـ«العدالة والتنمية».
وهزيمة العثماني أبعد من أن تُفسَّر بأسباب إجرائية وتنظيمية داخلية على نحو ما ذكره بعض قياديّي الحزب من تخلي الفريق المساعد للعثماني عنه أثناء التدوال عليه ساعة التصويت (التداول عملية تقييم شاملة للمرشحين الأساسيين أمام أعضاء الجمعية العمومية للحزب)، ومن امتناع العثماني عن الردّ على الاتهامات التي وُجِّهت إليه حتى من مساعديه، والتي كان يصعب السكوت عليها لما تضمنته من اتهام بالشخصانية والاستبداد في إدارة الحزب.
كل هذه الأسباب لا تتطرّق لما جرى من تغيير في قواعد الحزب ونموذجها السياسي، وهو الأكثر قدرة على تفسير ما جرى.
القول بأن خسارة العثماني وفوز بن كيران إشارة إلى تحوّل في الخيال السياسي لقواعد الحزب الإسلامي الأبرز في المغرب له ما يبرّره. فالمقارنة البسيطة بين العثماني وبن كيران كان يجب أن تحسم الاختيار في كل الأحوال لمصلحة الأول على عكس ما جرى؛ فالعثماني يبدو نموذجاً لقائد سياسي يمتلك كل مقوّمات النجاح، فهو إلى جانب تكوينه وخبرته السياسية المشهود له بها، صاحب إمكانات وملكات فكرية وشرعية أهّلته لأن يكون صاحب الدور الأبرز في رسم الخط السياسي للحزب وصياغة توجهه الفكري في السنوات العشر الأخيرة.
وهو على المستوى الشخصي هادئ ومتّزن، دمث الخلق ولبق الحديث، بما يجبر حتى خصومه على احترامه وتقديره، وهو ما أفسح له مكاناً بين خصومه وأنداده، سواء بين زعماء الأحزاب السياسية أو الحركات والأحزاب الإسلامية الأخرى، فضلاً عن زملائه في الحزب والحركة الإسلامية (حركة «التوحيد والإصلاح»).
وكان للعثماني الفضل الأكبر في تجاوز الحزب محنة الحملة الاستئصالية التي شنتها ضدّه القوى العلمانية المتطرفة، سواء في الأحزاب أو داخل دولاب الدولة، بعدما حمّلته المسؤولية المعنوية عن تفجيرات أيار/ مايو 2003 الإرهابية.
لقد نجح العثماني إبّانها في تقديم خطاب وممارسة سياسية هادئة وواضحة أعادت الثقة بالحزب لدى القصر ودعمت جبهة الاعتدال في النظام. ثم هو من بنى للحزب الإسلامي صورته المعتدلة في الإعلام ومراكز الدراسات ودوائر صناعة القرار في الدول الأكثر نفوذاً وتأثيراً في المغرب، وفي مقدمتها فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، حتى صار حزب «العدالة والتنمية» المغربي (بجانب نظيره التركي) النموذج الذي يقيس عليه الغربيون مدى اعتدال الأحزاب الإسلامية وأهليتها باستحقاق ثقة الغرب.
في المقابل، يقف بن كيران على العكس من العثماني. فهو، رغم كونه من القيادة التاريخية الأبرز والأهم في تاريخ الحزب (هو للحق صاحب فكرة الحزب ومؤسسه الفعلي) بل تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، إلا أنه شخصية مثيرة للجدل، وهي أبعد من أن تكون موضع اتفاق حتى داخل الحزب نفسه.
فابن كيران سياسي قلق وانفعالي يغلب على شخصيته المزاجية والعصبية بما يوقعه في خصومات لا تنتهي، سواء في حزبه وحركته أو في الحياة السياسية بالمغرب عامة. فخطابه السياسي تغلب عليه الصدامية حدّ التهوّر، وهو سريع الكرّ والفرّ ويميل في علاقاته ومواقفه إلى الحسم والوضوح الذي لا يترك مساحة للمناطق الرمادية، ممّا أورثه خصومات بل ثارات في الوسط السياسي (كما في علاقته مع فؤاد عالي الهمة رجل القصر المقتحم للحياة الحزبية حديثاً بحزبه «الأصالة والمعاصرة») أو في الحالة الإسلامية (وله خلافات حادة مع كل الجماعات والأحزاب الإسلامية تقريباً)، بل حتى داخل حزبه وحركته الإسلامية.
وما زال بن كيران محلّ خلاف، وربما رفض لدى قطاعات من أبنائها القادمين من «جمعية المستقبل الإسلامي» التي تمثل المكوّن الثاني مع «جماعة الإصلاح والتجديد» التي كان يتزعمها بن كيران قبل اندماجهما في الحركة الجديدة («التوحيد والإصلاح»).
ورغم أنه ظلّ موضوعاً إعلامياً بامتياز، لم يحتفظ بن كيران بعلاقات جيدة لدى وسائل الإعلام على اختلاف توجّهاتها!
ورغم ذكائه الشديد وقيادته للحركة الإسلامية في اختياراتها الكبرى الفكرية والسياسية، تظلّ علاقته مع عالم الأفكار غير جيدة. فليس للرجل القدرات الفكرية نفسها التي للعثماني، كما ليس له الصبر على بناء خطاب سياسي وفكري متماسك، فهو أقرب إلى السياسيين الشعبويين القادرين على إثارة الجماهير وتعبئتهم وراء قناعته واختيارته.
لكلّ هذا، فإن محاولة فهم النتائج الأخيرة التي أطاحت العثماني وأتت بابن كيران يجب أن تتوجه إلى مسار الحزب وخياراته وخطه الفكري والسياسي الذي قاده فيه العثماني والذي بدا أن تجربة «العدالة والتنمية» التركي كانت ملهمة له، بل ربما النموذج الأكثر تأثيراً عليه، على الأقل في الخطاب السياسي، على الرغم من أن حزب العثماني كان الأقدم في التأسيس. ويمكن القول باختصار إنّ تصويت قواعد «العدالة والتنمية» المغربي كان ضدّ النموذج التركي ومحاولة تنزيله على الواقع المغربي من دون مراعاة لاختلاف الحالة المغربية دولة ومجتمعاً عن نظيرتها التركية.
صوّتت قواعد «العدالة والتنمية» ضدّ كثير من مواقف العثماني وسياساته، لكن أتصوّر أنّ أهمّ ما صوّتت ضدّه القواعد هو ما بدا من قفز على قضية الهوية «الإسلامية» للحزب وما يتعلق بها من سياسات ومواقف.
لقد تبنّى العثماني مشروع التمييز بين الدعوي والسياسي، الذي دشن فصلاً واضحاً بين الحزب والحركة الإسلامية التي ينتمي إليها، بحيث استقلّ الحزب كمؤسّسة سياسية لا صلة لها بالدعوة في طبيعة المؤسسة أو الخطاب أو قضايا الاشتغال، واتجه إلى التنظير شرعياً لسياسة التمييز هذه من خلال دراسته في السياسة الشرعية (تصرفات الرسول بالإمامة) التي يميز فيها بين الرسول كنبي وبينه كحاكم، ومن ثم يميز بين حجية تصرفاته في الحالتين. وقد حاول تنزيل ذلك واقعاً، فتعمّد في إدراته للحزب الابتعاد تماماً عن كل ما له صلة بالقضايا الإسلامية، بل بالغ في الابتعاد عنها حتى ولو كانت قضية المغرب بأكمله.
شهد النصف الأخير من العام الماضي تفجّر قضايا عدة تنال من هوية المغرب «الإسلامية». وجميعها إمّا لم يحرّك فيها الحزب ساكناً أو كان الأضعف صوتاً في الاحتجاج، حتّى من القوى غير المحسوبة على الإسلاميّين، فضلاً عن الشارع العادي. وفي أقل من شهرين، جرت وقائع تنظيم حفل علني لتذوّق الخمور في قاعة كبرى بمدينة مكناس، العاصمة التاريخية التي يرأس بلديتها عمدة من «العدالة والتنمية»! ووقائع حفل زواج للشواذ في مدينة القصر الكبير المعروفة بتديّن أهلها، وثارت الدنيا ونزل المغاربة إلى الشارع احتجاجاً، فيما تجاهل الحزب القضيتين قبل أن يلحق بقطار الرفض في آخر محطاته على استحياء!
تزامناً مع هذه الوقائع، جرت زيارة ملك إسبانيا الاستفزازية لجزيرتي سبتة ومليلة المغربيتين المحتلّتين من الإسبان، وكان ردّ فعل قيادة الحزب هادئاً بارداً، تماماً كما تعامل الحزب مع قضيّة البعثات التنصيريّة الغربيّة التي تعمل بحرية وبدعم ضخم لتنصير أهالي جبال الأطلس وبعض مدن المغرب الفقيرة!
أتصوّر أنّ قواعد «العدالة والتنمية» وهي تصوّت ضدّ العثماني، كانت تصوّت أيضاً ضدّ ما بدا كأنه محاولة لاتباع النموذج التركي. فمشروع التمييز بين الدعوي والسياسي بدا أقرب إلى نوع من «العلمانية المؤمنة»، وخاصة مع مبالغة العثماني في تأكيد التمييز حتى صار أقرب للفصل، وكذلك مع تنظيره لخطاب التدبير الذي يجب أن يتنباه الحزب بدلاً من خطاب الهوية الذي لاقى نقداً، بل ازدراءً من العثماني لا يتناسب وطبيعة بلد كالمغرب تتأسس الدولة فيه على شرعية دينية، بل تحكم وتسيطر وفق هذه الشرعية ولو لم تلتزم بها واقعياً، في الوقت الذي تحاول فيه القوى الفرنكوفونية الطعن في الهوية الإسلامية باستمرار وعلمنة البلاد ثقافياً واجتماعياً بعدما تعذرت لأسباب مختلفة النص على العلمنة دستورياً.
لقد كانت قواعد «العدالة والتنمية» وهي تصوّت لبن كيران تعيد التأكيد على قضية الهوية الإسلامية التي تتعرض للاعتداء والتحرّش عن قصد لا ينفع معه التجاهل. فبن كيران معروف بمعاركه اليومية للتأكيد على قضية الهوية الإسلامية للمغرب والطابع الإسلامي للدولة المغربية.
بن كيران قيادي سياسي يعرف الأرض التي يتحرك عليها والجمهور الذي يتوجه إليه ووزن الأفكار في الفعل السياسي وكيفية تنزيلها على الواقع.
فهو رغم كونه براغماتياً بعيداً تماماً عن الدوغمائية، ما زال واعياً بأن «العدالة والتنمية» حزب إسلامي في المقام الأول والأخير، وأنه مهما كان معتدلاً فلا بد من أن يبقى على الأرضية الإسلامية ولا يتجاوزها، وأن الناخب المغربي قد يختاره للدفاع عن هويته الإسلامية المتحرش بها قبل أن يختاره لتدبير سياسي يعرف أن سقف الحزب لن يصله، وأن يده لن تطوله إلا بموافقة من القصر وسادته.
وبن كيران يخوض المعارك السياسية يومياً، بل ويفتعلها إن لم يجدها، لعلمه أنّ الأحزاب تقتات من المعارك السياسية ولا تعيش على الأفكار المجردة مهما كانت قيمتها، فيضرب عالي الهمّة رجل القصر رغم أن بن كيران أقرب للقصر وأحرص على الصلة به من العثماني الذي كان البعض يتهكم على كون صديق الهمة خصم «العدالة والتنمية» اللدود!
بن كيران هو الزعيم السياسي الذي ما زالت أقدامه على أرض المغرب، لم يفارقها، وما زال يشتغل في السياسة بمنطق يفهم طبيعة السياسة في دولة لم تستقر فيها المؤسسات، فضلاً عن أنه يسعى إلى الفصل بينها. وهو ما زال يعمل في السياسة عبر الرعاية الاجتماعية والخدمات الإنسانية التي لا يتوانى عن تقديمها لجماهير ربما لم تقرأ ولا يعنيها أن تقرأ تنظير العثماني في التمييز بين الدعوي والسياسي!
إنّ التغييرات التي طالت حزب «العدالة والتنمية» هي رسالة بليغة لقادة الأحزاب والتنظيمات الإسلامية في العالم العربي، التي داعب خيالها النموذج التركي، مفادها أن الواقع مختلف وأنّ الأفكار لا تتحرّك في فراغ، بل في واقع يؤكّد أنّ الترك ترك والعرب عرب وقد لا يلتقيان!
* باحث في شؤون الحركات الإسلاميّة