سلام الكواكبي*برزت على الساحة الكتابية العربية في الفترة الأخيرة، أقلام تحمل في ما تحمله لبرلة قصوى وإقصائية نجمت عن فقر معرفي وضحالة انتمائية. ولقد أسّست بالتالي لتيّار أطّر نفسه بهالات الحداثة والتحرر والديموقراطية والليبرالية (الأميركية تحديداً)، مشيراً إلى أن كل من خالفه رأياً أو تحليلاً هو من مخلّفات الماضي السحيق، وأنه يجترّ في عقائد عفا عليها الزمن. مثلاً، من أعزّ انتصارات فكرهم التحرري أن تستعيد البصرة خمّاراتها بعدما طهّرتها قوى «التحرر والتقدم» بقيادة «بوليفار العراق» نوري المالكي من «موبقات» التعصب والتخلف. وإن خلع هذا «الغيفارا» حامل عبق ثورة القرنفل البرتقالية ربطة عنقه أمام زعماء إيران، ففي ذلك إشارة إلى تراجع يؤسف عليه عن الخط «التقدمي» الذي شجعت قيامه قوى «الثورة» الأميركية في العراق، مطيحةً ليس فقط صدام وعسسه، بل استقلال هذا البلد العظيم، ونقلته إلى زمن «الحداثة» التي يمكن ترجمتها بحروب الطوائف والقبائل. وبالتالي، تسبّب ربطة العنق تحسّساً من أداءٍ كان حيدر سعيد («الأخبار» 2 تموز 2008) مندهشاً به لما حمل من «تحوّل الرجل من إيديولوجيا الإسلام السياسي إلى إدارة دولة مدنية... إلى إدارة بلد تعدّدي»! ويدخل ضمن نطاق المفاجأة غير السارة بمثل تلك الكتابات أنّ القائمين بها إمّا يجهلون ما معنى الدولة المدنية والبلد التعدّدي، أو أنّهم يتجاهلونه، وخصوصاً عندما يتطرّق الحديث إلى دولة تحت الاحتلال أو أنّها في أحسن الأحوال تحت هيمنة ووصاية تشمل الأخضر واليابس فيها.
زد على هذه «الخيبة» المقتصرة على تحليل الرموز من ربطة العنق إلى بيع الخمور، أن كاتبنا تفاءل بالخير فلم يجده، حيث إن حكومة المالكي قررت أخيراً، وبقرار ننتظر تحليله الرمزي من سعيد، إغلاق دور اللهو والمشارب في كل العراق عدا الفنادق الكبرى، وفي ذلك رمزية هامة أتمنى أن يحللها لنا ليبراليو الاعتقاد بالدولة «المدنية» حيث سيتاح الخمر فقط للأجانب، محتلين كانوا أم دبلوماسيين أم مستثمرين، ولمن يلوذ بهم من أصحاب السطوة في هذه الدولة «التعددية».
ولكن موضوع المالكي يظلّ سهلاً في معالجته القائمة على الرموز والخيبة والتفاؤل، مقارنة بالتمجيد الذي يقارع خطاب العقائدية المتجمدة في ما يتعلق برمز «العلمانية» العراقية الجديدة النائب «الوحيد المنتخَب لشخصه» في البرلمان العراقي مثال الآلوسي «دون كيشوت العلمانية العراقية» («الأخبار» 23 أيلول 2008). والإشارة الوحيدة إلى علمانية الرجل هي زيارته إلى إسرائيل للمشاركة في مؤتمرات بشأن مكافحة الإرهاب، وها نحن أمام مقياس جديد للعلمانية لم يخطر لجورج طرابيشي أو لصادق جلال العظم أو لغيرهما من رواد الفكر العلماني العربي الحقيقي، وهو القيام بزيارة إلى إسرائيل.
سيكون من المحتمل في ظلّ هذا العهر الفكري أن تكون زيارة إسرائيل مقياساً لمدى ديموقراطية الإنسان، وبالتالي إيمانه بالقيم التحررية والليبرالية والحضارية. لمَ لا، ونحن نشهد على مرحلة تُقلب فيها المعايير والمقاييس رأساً على عقب، وإن أبدينا أيّما امتعاض، أضحينا من «الديماغوجيين»، كما أصبغ حيدر سعيد على كل من خالفه الرأي ومن سيخالفه لاحقاً، وأنا منهم.
ربما إن أمعن النظر قليلاً في معنى هذه العبارة لاتّضح له أن الديماغوجية هي إشاحة النظر عن وضع مشؤوم يمرّ به بلده في ظلّ دمار كامل لا يهمّ أن نسمّيه احتلالاً أو وصاية أو عمالة، واعتبار أن شعب العراق من دون استثناء غير «آبه بالقضية الفلسطينية وتطوراتها». وربما الدليل على ذلك أن زبانية «الديموقراطية» الجديدة قد هجّروا من بقي من اللاجئين الفلسطينين في بغداد ورموا بهم في مخيمات العار على الحدود السورية.
ومن الديماغوجية أيضاً الاعتقاد أن الحكم الجديد في العراق، (وهل من حكم؟)، «يسعى إلى إثبات وطنيته في محيط عارم من الشكوك»، فلا هو سعى ولا هو يسعى ولن يسعى ما دام متمتعاً بحماية «ليبرالية» من وزن ديك تشيني وشركاته. وكفى المؤمنين شرّ السعي.
إنّ قمّة الديماغوجية هي خلط الأمور والمعايير والمقاييس والرموز حتى يضيع القارئ أو المتلقي بين حيص وبيص، ويظهر بالتالي أن الكاتب متبحّر في شؤون كل ما يتفوّه به وهو عنه بجاهل. فالحديث عن العلمانية والتعددية والمدنية والوطنية يستوجب مراجعة ولو سطحية لأمهات الكتب التي جاءت بهذه الأفكار والمفاهيم، لا استخدامها من خلال رؤية انتقائية لمجريات الأمور، حيث يلعب العامل الشخصي والإحباطات النفسية المنبثقة عن تجارب سياسية لم توجِد لأصحابها منافذ واضحة بعدما ثبُت خواء انتماءاتهم السابقة.
ما أسوأ التمثّل ببعض تروتسكيي أميركا الذين أصبحوا من دعامات الفكر المحافظ الجديد. إنها حالة الكثير من عربنا اليوم الذين قادوا معارك ديماغوجية بحق في سالف العقود وهم الآن يركبون موجة ديماغوجية جديدة علّها تسمح لهم بالعودة إلى مسرحٍ أضحى مليئاً بالمهرجين.
ما يشفع للكاتب أنّه أوجد للآلوسي نظيراً في تاريخ «العلمانيين والديموقراطيين والمدنيين» ممن دفعوا حياتهم ثمن «شجاعتهم وإقدامهم»، وهو الرئيس أنور السادات. على الرغم من أنهما مشتركان في فهم ماهية الصراع وعمق السلام وإحداثيات العلمنة والحرية، فقد ارتكبا هفوة بحسب محللنا. فالآلوسي ابتكر معركة خاسرة تسمح للديماغوجيين بادعاء الوطنية، والسادات لم يُحسن أن «يمتلك أدوات إحداث انقلاب راديكالي، سياسي، أو مفهومي، أو ثقافي، أو مجتمعي».
ونبشّر حيدر سعيد، كما أصحاب التيار اللاديماغوجي، بأن النائبة التشيكية في البرلمان الأوروبي يانا هيباشكوفا، التي تترأس الوفد الدائم للبرلمان الأوروبي للعلاقات مع إسرائيل، اقترحت منح مثال الآلوسي جائزة زخاروف مقابل علمانيته وانفتاحه على «الديموقراطية» الإسرائيلية.
أكاد أسمع ثربانتس يلتفت إلى دون كيشوته ويقول له: لقد هزُلت!
* باحث سوري