مصطفى بسيوني
«استعنَّا على الشقا بالله»... تلك العبارة التي أطلقها إبراهيم عيسى على صدر «الدستور» في العدد الأول من الإصدار الثاني للصحيفة ربيع 2005، كانت أشبه بنبوءة! من كان يتصوّر أن يسجن رئيس تحريرها في خريف 2008... بعدما أغلقت السلطات تلك الجريدة المشاغبة ـــ مرة أولى ــــ عام 1998؟ إنّه إبراهيم عيسى، الصحافي الذي بات رمزاً لمعارضة نظام حسني مبارك. الوصول إلى مكتبه في «الدستور»، تلك الجريدة المستقلّة التي تزعج الجميع، أشبه بمغامرة. موقعها الجغرافي يعبُّر بدقّة عن الحصار الذي تعيشه الكلمة في مصر. فمركز الجريدة الذي يقع على ضفاف النيل في الجيزة، يحيط به مبنى السفارة الإسرائيلية، ومديرية أمن الجيزة، ومقر الحزب الوطني الحاكم، والسفارة السعودية... وتقابله حديقة الحيوان.
بعد اجتيازك هذه الحواجز برمزيتها وصولاً إلى مكتب رئيس التحرير، ستجد شخصاً آخر غير الذي توقّعته. المعارك اليومية الطاحنة، والأزمات والقضايا الساخنة، وحتى الحكم بالحبس لم تستطع أن تخطف البشاشة عن وجهه. طيبة وأخوية يحاول بهما طوال الوقت طمأنة المحيطين به. حتى ضغوط العمل في جريدة يومية متواضعة الإمكانات، ومرتفعة الطموح، لا تدفعه إلا إلى غضب أخوي يبلغ سقفه الأقصى في الخصام والعتاب... لا في الجزاء والعقاب.
إبراهيم عيسى الذي صدر بحقّه أخيراً حكم قضائي بالسجن شهرين، بتهمة نشر شائعات عن صحة الرئيس المصري، استقبل الحكم بهدوء، بل بسخرية: «اندهشت من أن يكون الحكم شهرين فقط، وتساءلت إن كانت تلك محاولة لتسهيل فكرة حبس الصحافين بحد ذاتها، حتى بِعقوبة مخفّفة في مرحلة أولى، على أن يجري تضخيمها لاحقاً؟ في الغالب يكون الأمر كذلك، وسيكون 2009 عام حبس الصحافيين بامتياز، وخصوصاً أنّ هناك العديد من القضايا التي يُنظر بها في المحاكم». بصلابة ممزوجة بخفة لم تفارقه حتى في الظروف الصعبة، يقول عيسى: «حقيبتي جاهزة، فيها كل لوازم السجن. وهو اليوم يزيدني شرفاً، ولا ينبغي أن يحرم هذا الامتياز اليوم أيّ شريف في مصر. لم أكن أعارض نظاماً ديموقراطياً. وأعرف جيداً أنّ المعارضة في ظل نظام مستبد ومتخلّف لها ثمنها. وينبغي أن نكون مستعدين لدفع هذا الثمن».
إبراهيم عيسى بدأ حياته السياسية في الجامعة ناصرياً، وانضم إلى الحزب العربي الناصري في بداية تكوينه مطلع التسعينيات. ثم تولّى أمانة التثقيف في محافظة المنوفية، وانضم إلى تيّار الشباب في الحزب قبل أن يغادره معترضاً على ضعف الديموقراطية الداخلية. وحين نسأله اليوم عن خياراته السياسيّة يجيب: «انتمائي إلى الناصريّة غلب عليه الطابع العاطفي، ولم يكن لي منهج سياسي. الآن، يمكن القول إنّي ليبرالي عموماً في القضايا السياسية والديموقراطية. وعلى مستوى القضايا الاجتماعية، أنا أقرب إلى موقف اليسار. إنّي تقدمي وتحرري عموماً». لم يكن غريباً، والحالة هذه، أن تكون «الدستور» منبراً لكل القوى السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ليس فقط على صفحات الرأي والأعمدة، لكن أيضاً على مستوى محرري الجريدة أنفسهم. جعل عيسى من هذا المنبر الإعلامي نموذجاً بارزاً للتعايش، والتحاور السياسي والفكري الذي أصبح أهم ميزاته. هناك استثناء وحيد لهذه القاعدة: «فقط المطبّعون ودعاة التطبيع مع إسرائيل هم مَن نرفضهم في الجريدة وعلى صفحاتها. وعدا ذلك، ينبغي أن تكون الجريدة منبراً لجميع وجهات النظر والأفكار مهما اختلفنا معها». موقف كهذا ما كان ليمرّ مجاناً. إذ إنّ فتح صفحات «الدستور» لمعارضي النظام وخصومه، جعل الجريدة ورئيس تحريرها وصحفيّيها هدفاً دائماً للنظام وأجهزته.
الانحياز الأكبر لعيسى لم يكن للمعارضين السياسين، بل لحركات المقاومة على أشكالها. لقد احتفت الصحيفة دوماً بحركات المقاومة الطبقية والفئوية، ودعمت حركة استقلال القضاة، وكانت الأكثر تضامناً مع إضرابات العمال والموظفين، ونضال الطلاب وأساتذة الجامعات والمعلمين، وسكان العشوائيات، والأقباط وغيرهم. كان قلم إبراهيم عيسى نفسه الأكثر جرأة وشعبيةً في الهجوم على النظام، وطرح آمال هذه الحركات وطموحاتها. وقد نجح بالفعل في أن يحوّل «الدستور» إلى راية عالية يتطلع إليها الجميع، مثلما نجحت هي في رفع سقف الصحافة المصرية وتوسيع فضائها المعارض. لكن العلامات الفارقة لهذا الإعلامي المصري المشاكس باسم الحريّة، لا تتوقّف عند خياره السياسي القوي والحازم ولا عند انحيازه الاجتماعي الواضح. هناك قبل كل شيء الحس الصحافي المتيقظ، والأدوات المهنية الراقية التي تقوم عليها كل مشاريعه المهنية، لذا ربّما كان النظام الحاكم خصمه المباشر، بشكل أساسي، في تلك المشاريع عينها.
بدأ إبراهيم عيسى حياته المهنيّة ولمّا يتخرّج من الجامعة صيف 1983. كان ذلك في مجلة «روزا اليوسف»: هنا لفت الأنظار إلى موهبته وقلمه، صحافياً شاباً يبحث عن مادته في المناطق الإشكاليّة والمظلمة من الحياة الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة... ثم أطلق مشروعه الصحافي الأول والأبرز «الدستور» الأسبوعية عام 1995. وقد عُدّت مدرسة جديدة في الصحافة المصرية باعتمادها شبه الكامل على صحافيين شباب، وعلى لغة بسيطة وقريبة إلى اللغة الشعبية، وعلى عناوين جذابة وجرأة في طرح الموضوعات السياسية والاجتماعية والثقافية. الصحيفة التي فاجأت الجميع بنجاحها أغلقتها السلطات عام 1998، لكنّها لم تستطع محو أثرها من الشارع. بدا ذلك جليّاً من الطريقة التي تلقّف بها القراء الإصدار الثاني عام 2005. أتاحت الظروف السياسية والاجتماعية لهذا المنبر حينذاك لهجةً أكثر حدة، وسقفاً أكثر ارتفاعاً، ما جعلها تتحوّل من أسبوعية إلى يومية بالنجاح نفسه، إنما بتأثير أكبر وأعمق.
ورغم كونه من أكثر الكتّاب بساطةً وسلاسةً وقدرة على الوصول إلى الناس، إلا أنّ ذلك ليس أهم ميزاته. فهو أيضاً قارئ نهم، ما جعله أكثر فهماً وإحساساً بنفسيّة القارئ وأكثر قدرة على التعامل مع القرّاء من مختلف المستويات الثقافية.
أمر آخر يميّز أداء إبراهيم عيسى. اِسألوا كل من عمل معه أو عرفه عن قرب: هذا الرجل تجذبه الموهبة لدى الآخرين. كلّما أطلق مغامرة جديدة غصّت بالأسماء والطاقات الشابة التي سرعان ما تأخذ مكانها على الساحة الإعلاميّة المصريّة، بعدما عملت المنابر المكرّسة على محاصرتها واستبعادها. إنّها هديّته الدائمة إلى الأجيال الصاعدة: بمَ يحلم الصحافيّون الشباب سوى بعمل متحرّر من القيود والاعتبارات التقليدية والمساومات، في صحيفة مشاغبة. هذا التوجّه هو بلا شكّ جزء من مقدرة الرجل وإنجازاته: اكتشاف المواهب حوله بين الشباب وتوظيفها وتطويرها وإطلاقها بعيداً عن أمراض “الشللية” التي تفتك بالصحافة العربيّة.
ذلك أن إبراهيم عيسى رجل أدب أيضاً. شخصيته المتحررة والمتحدية تنعكس في رواياته القليلة المنسيّة على أحد رفوفه، رغم اعتزازه بها: «مقتل الرجل الكبير»، و«مريم التجلي الأخير»، و«دم على نهد» و«أشباح وطنية» وغيرها من الأعمال التي استخدم فيها إلى حد ما الإطار الأدبي في التعبير عن هموم سياسية. ببساطة وعمق، ربط عيسى دائماً بينهما في كتاباته المتنوّعة، حتى التاريخية والدينية مثل «دم الحسين» و«رجال بعد الرسول».
هذا هو رئيس التحرير الذي ينتظر اليوم أن يدقّ العسس بابه، ليقتادوه إلى السجن بجرم تطرّقه لموضوع محظور من أخطر تابوهات الجمهوريّة! إبراهيم عيسى الصحافي والمناضل السياسي، يبقى إنساناً حميماً بداخله. يظهر ذلك في ودّه التلقائي، وغير المتكلّف تجاه المحيطين به. يستخدم هؤلاء لدى الكلام عنه وصفاً شعبياً مصرياً هو «ابن البلد».
بعيداً عن الضغوط الهائلة التي تلاحقه، من رهان إطلاق جريدة مستقلّة في مصر اليوم، إلى شبح الإغلاق والمحاكمات وسائر المعارك السياسية والصحافية، يقول إبراهيم عيسى إنّ أهم حدث في حياته هو ولادة طفليه يحيى وفاطمة. إنه نفسه على كل الجبهات: في الصحافة والسياسة والأدب... كما في الصداقة والحياة الأسرية، هو نفسه الشخص المخلص والمشاكس. «ابن البلد». الصحافي الذي أزعج الرئيس! أليس جديراً جداً بالسجن في بلد يبرّأ فيه القتلة؟


5 تواريخ

1965
الولادة في المنوفية جنوب دلتا النيل

1983
الدخول إلى «روز اليوسف»

1984
التخرّج من كلية الإعلام في جامعة القاهرة

1995
إصدار جريدة «الدستور» الأسبوعية التي أغلقتها السلطات بعد ثلاث سنوات. ظهرت مجدداً عام 2005 وتحولّت إلى يومية عام 2007

أيلول (سبتمبر) 2008
حكم عليه بالسجن شهرين، بتهمة نشر شائعات عن صحّة الرئيس المصري حسني مبارك