تخيفني هذه المدينة. تخنقني بشوارعها وصور شهدائها وأضرحتهم. لا مجال للتنفّس هنا، أشعر أحياناً بأن الهواء يختفي فجأة، ليعود ما أن أجتاز مستديرة المكلّس صعوداً نحو المنزل.لا أفهم الأوصاف التي تطلق عليها، ولا التعابير التي ترافق اسمها. «بيروت ستّ الدنيا»، «بيروت عاصمة العروبة»، «لن نرضى المس بكرامة بيروت»، وهذه أكثر العبارات هزلية. أساساً كيف يحافظ إنسان أياً يكن، على كرامة مدينة؟
المهمّ، أنني لا أحب بيروت. بيروت مثل العاهرة. صدق إلياس خوري يوم كتب ذلك، فلا مجال للخروج مع عاهرة من دون جيوب مليئة، ولا مجال للعيش في بيروت من دون صرف المال لسبب أو لآخر.
أقف على الكورنيش ـــــ المكان المجاني الوحيد في بيروت ـــــ أشعر برغبة جامحة في الصراخ. ما كل هذه الوجوه العابسة؟
في الماضي غير البعيد، كانت بيروت مختلفة، رغم تشويهها خلقياً في ما عرف بإعادة إعمار وسطها. لا تحتمل المدينة كل هذا الصراخ والتهديد الذي يجري في شوارعها، ولا هذه الدماء التي سالت بحجة الدفاع عنها. لا تحب بيروت الدماء. يجب ألا تحب الدماء، هي عاصمة، وفي العواصم لا يموت الناس، هكذا أخبروني في طفولتي. ولكن لا مجال لحكايات الأطفال في بيروت.
كنت أحب بيروت. أقصد بحرها مع أصدقائي، نأكل الترمس والفستق وعرانيس الذرة، ونحن متأكدون من «تسمّمنا» في اليوم التالي. هناك على هذا الرصيف أخبرني أحدهم بأهم أسرار حياته، وهناك أيضاً اعترفت لي رفيقتي بعلاقتها الغرامية الأولى مع أحد الشباب، كنا نتحدّث ونترك أسرارنا «الخطيرة» على الكورنيش.
أنظر اليوم إلى البحر، هو فعلاً «غضبان ما بيضحكش»، حتى البحر اكتأب. هذه هي بيروت «الخط الأحمر»، بيروت التي انقسم سكانها بين ساحة وساحة ومليون ومليون آخر. حتى إشعار آخر أنا لا أحب بيروت، لا أحب هذه البيروت.

ليال...