strong>لطيفة بوسعدن *دعت هيئات حقوقية مغربية، الملك محمد السادس ووزيره الأول للمصادقة على الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وذلك بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة الاختفاء القسري. وصادفت هذه الدعوة مع إطلاق «المنتدى العالمي المناهض لظاهرة الاختفاء القسري» حملته الدولية لحث الحكومات على المصادقة على هذه الاتفاقية الأخيرة التي تفترض في كل دولة تتبناها، أن تكون مدركة لخطورة الفعل الذي يمثّل، في ظروف معينة يحددها القانون الدولي، «جريمة ضد الإنسانية»، وأن تكون عاقدة العزم على منع حالات الاختفاء القسري ومكافحة إفلات مرتكبي هذه الجريمة من العقاب... كما ورد في مقدمة الاتفاقية.
من الملاحظ أنّ المغرب ما زال يراوح مكانه بالنسبة لاتفاقية ساهم في إخراجها إلى الوجود، بل وقّع عليها توقيعاً أولياً في فرنسا سنة 2006، مبدياً إرادة قوية في تصفية تركة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فما الذي حدث وحال دون مصادقته على الاتفاقية؟ ولماذا كل هذا التردد، والمغرب هو البلد الوحيد في العالم العربي الذي عاش تجربة المصالحة مع الماضي رغم نواقصها. وربما هو الوحيد أيضاً الذي صادق على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب.
الواقع أنّ سلوك التردّد هو انعكاس آخر لوضعية عنق الزجاجة التي دخلها المغرب منذ فشل تجربة التناوب التوافقي، وما نتج من ذلك من صور للانحسار في مختلف المجالات، كما يحدث مثلاً على مستوى الحريات العامة. وقد تعزى مبرّرات هذا التردد إلى قوة مضامين الاتفاقية التي تتطلب إرادة سياسية قوية للتعامل معها. فالاتفاقية من جهة توسع من مفهوم الاختفاء القسري ليشمل الاحتجاز والاختطاف ومختلف أشكال الحرمان من الحرية التي يجريها موظفو الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو بدعم من الدولة أو بموافقتها، وهذا بالضبط ما حدث في مغرب سنوات الرصاص، وهي بالمناسبة سنوات ليست بالبعيدة تماماً ـــ في الحصيلة على الأقل ـــ عما يحدث في مغرب اليوم.
قد تبدو وضعية حقوق الإنسان في المغرب مدعاة للتفاؤل بالنسبة للبعض، وذلك ما يجسده مثلاً الخطاب الحقوقي الرسمي، فيما تدنو المسألة من القتامة بالنسبة للبعض الآخر. وتتخذ الرؤية الأولى أحياناً صورة تبشيرية مبالغاً بها، كما قد تسقط الرؤية الثانية في بئر التحريم. ولكن لنوضح الأمر كالتالي: لا يمكن تغيير الوضع فقط بالتصريحات التي تردّد أن صفحة الماضي طويت تماماً، بل يصبح الأمر مثيراً للشفقة عندما يصرح بذلك مسؤولون سبق أن ذاقوا مرارة الاختطاف التعسفي والاعتقال بدون محاكمات عادلة، وربما نسوا ذلك لأنهم انخرطوا في مشروع الدولة أو السلطة في العهد الجديد.
لنوضح الأمر أكثر: تغيير الوضعيات، وخاصة عندما تكون هذه الأخيرة مرتبطة أيما ارتباط بالمجتمع، لا يوقعها فقط الإعلان عن موت العهد القديم، سواء اتخذ شكل خطاب ملكي أو تقارير حكومية، أو قرارات عليا أو قوانين. فهي تظل في منأى عن أي تغيير ما لم يرتبط الأمر بقدرات حقيقية للتغيير. ولعل إحدى هذه القدرات هي الانخراط في الاتفاقيات الدولية التي لم يصادق عليها المغرب بعد، والتي تعزز منطقياً صيرورة طي صفحة الماضي الأليم، ورفع التحفظات التي ما زالت تطال معاهدات أخرى صادق عليها المغرب، وكذا وضع آليات للعمل والتنفيذ بالنسبة لاتفاقية مناهضة التعذيب، لأن واقع الحال يشير إلى استمرار التعذيب في مخافر الشرطة وحدوث وفيات جراء ذلك. وإحدى هذه القدرات كذلك تتجسد في ملاءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية، وهو صلب ما جاء في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة السابقة، أي الحماية الدستورية للتحولات الطارئة على مجال حقوق الإنسان.
نشير أيضاً إلى أنّ المصادقة على اتفاقية مناهضة الاختفاء القسري تعني عدم تكرار ما سبق من اختطافات واختفاءات قسرية، وهي للأسف من الممارسات التي ما زالت مستمرة وطالت أساساً معتقلي التيارات الإسلامية الذين يحاكمون في إطار قانون مكافحة الإرهاب. وهنا نصل إلى بيت القصيد!
ثم إن الانخراط في الاتفاقية يشير إلى اتخاذ الدول الأطراف فيها التدابير اللازمة لكي يمثّل الاختفاء القسري جريمة في قوانينها الجنائية، مع تحديد للعقوبات حسب شدة الجريمة، وهذا يرتبط، كما سبقت الإشارة، بمكافحة الإفلات من العقاب بالنسبة للأشخاص الذين يمارسون هذه الجرائم وتقديمهم للمساءلة القضائية. وهذا بالضبط ما مثّل ثغرة من ثغرات المصالحة المغربية تلك.
ففي جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة، وأعطت فيها الكلمة لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولذويهم، لكن بتوافق مسبق ألاّ يشير الضحايا إلى أسماء جلاديهم ومختطفيهم... وبالطبع لم نرَ على شاشة التلفزة التي نقلت الجلسات، حضور المتورطين عن انتهاكات الماضي وبعضهم ما زال في مراكز المسؤولية. وطبعاً لم نسمعهم وهم يقدمون اعتذارهم مباشرة للضحايا، كما حدث في تجارب دولية أخرى للمصالحة كجنوب أفريقيا مثلاً.
إنّ الهيئات الحقوقية بالمغرب، بما في ذلك لجنة التنسيق لعائلات المختطفين المجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري، تتحوّل إلى ضاغط اليوم باتجاه دفع السلطات للمصادقة على الاتفاقية. إلا أنها هي نفسها مطالبة بالكشف التام عن الحقيقة، المؤدية إلى إغلاق ملف المختفين. وهذا لم تستطع هيئة الإنصاف والمصالحة إتمامه، وبقي مصير العديد من المختطفين مجهولاً، وتلك ثغرة أخرى. ولعلّ أشهر قضايا هذا الملف تلك المرتبطة باختفاء المناضل اليساري المهدي بن بركة، الذي ما زالت حقيقة اختفائه مند سنة 1965 لم تتضح بعد، وتصطدم بضرورة الحفاظ على سرّ الدولة، بل الدول التي ساهمت في اغتياله.
* صحافية مغربية