ريمون هنودكفرشيما، تلك البلدة الرائعة في قضاء بعبدا، خزّان الأدباء والشعراء والفنانين، فيها وُلد شبلي الشميل عام 1860، وهو الطبيب العالِم والفيلسوف، الأديب والمفكر، الأب الروحي للفكر الاشتراكي العربي الذي كان يتحلّى بالجسارة والإقدام والجرأة الجبّارة الهائلة، لدرجة أن لقبه كان الثائر المتطرّف والملحد الثائر. وإذا أقدمنا على البحث في خصائص عصر النهضة وميّزاته وأغفلنا دور هذا الأديب والمفكر التحرري الذي بذل الغالي والنفيس من أجل الدفع بحركة الانبعاث في اتجاهها الصحيح نحو حقيقة اسمها الاشتراكية، نكون فعلاً قد جنينا على الفكر العلمي المنطقي التقدمي، الذي غزا بواسطة شبلي الشميل مفاصل تلك الحقبة من الزمن. فالدكتور رفعت السعيد كتب في كتابه «تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر (1900 ـــــ 1925)» قائلاً: إن الداروينيّة التي أيّدها الشميل حازت اهتماماً بالغاً من جانب الباحثين عن الحقيقة وحضّتهم على الإيمان بالعلم وعلى خلق مدرسة فكرية جديدة. أمّا الكاتب العربي إسماعيل مظهر الذي عاصر الدكتور شبلي، فقال: عندما وقّعت نسخة من كتاب الدكتور شبلي: «فلسفة النشوء والارتقاء»، أحدث في فكري انقلاباً رائعاً عجزت اللغة والكلمات عن وصفه. شبلي الشميل لم يكن مجرد داعمٍ للمذهب الدارويني فقط بل حثّ وحضّ على الإيمان القوي بحتمية التطور في التاريخ. وقد وصف رئيف خوري في كتابه «الفكر العربي الحديث» الشميل بـ«فلتة زمانه»، فهو كان يهدف (الشميل) إلى نقل الأجيال الصاعدة فكرياً إلى التطور، إلى النظريات الجديدة.
لقد ترك الشميل، يتابع رئيف خوري، مجلّدين غنيَّين يحويان كل آثاره الأدبية وعُرِفَ المجلدان باسم «مجموعة الشميل». لقد تأثّر الدكتور شبلي بالثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 وعدّها حدثاً عظيماً في السير نحو بلوغ الاشتراكية. وفي بحوث الشميل التي كتبت ما بين سنة 1908 و1910، ردوده العنيفة الناقدة للنقّاد الذين يكتبون في الحاضر وعيونهم تبكي على أطلال الماضي. وقد كتب في هذا المجال بأن الاشتراكية تستردّ للإنسان الفردوس التائه من أيدي مرَدَة الاجتماع وشياطينه، وهو يقصد عَبَدَة رأس المال المستغلّين الذين لا حدود لأطماعهم واستغلالهم.
إنّ الأهمية التاريخية لدعوته إلى تبنّي فلسفة النشوء والارتقاء، نشأت عبر إعجابه الشديد بمبادئ الثورة الفرنسية وبإحساسه المبكر بأن الثورة هي وسيلة إنسانية كبرى لا تحدث في سبيل حب الفوضى والاضطراب، والجماهير لها المصلحة الكبرى في الاشتراك في الثورة على أساس أنها هي التي عانت وتعاني الأمرّين، وبالتالي هي الضحيّة. لقد تصدّى شبلي الشميل منفرداً لكل حملات التشهير الضارية التي شنتها قوى الرجعية المتزمتة ضده، ويقول الشميل إن هؤلاء لم يكونوا يدافعون عن الدين كما ادّعوا، بل كانوا يدافعون عن الاستبداد والاستعباد باسم الدين، علماً أن هؤلاء الرجعيين استغلوا المواقف الإلحادية التي كان الدكتور شبلي يعلنها بجرأة وصراحة، مما دفعهم إلى شنّ الهجوم الضاري على الحزب الاشتراكي الذي تأسّس بمصر سنة 1919 علماً أن الدكتور شبلي توفي عام 1917.
وفي هذا المجال، يقول الدكتور رفعت السعيد: الحزب الاشتراكي في مصر اتخذ موقفاً من الدين وكان في عداده رجال دين أمثال الشيخ صفوان والشيخ نجيب اللذين أدّيا دوراً مهماً وبارزاً في كشف الجوانب التقدمية في الدين واستخدامها سلاحاً ضد أعداء الاشتراكية، وقد تفادى الاشتراكيون المصريون الأخطاء التي وقع فيها شبلي الشميل، وهم رأوا أن خطأ الشميل كان المجاهرة بإلحاده، ولكن الذين رأوا أن الشميل أخطأ بتلك المجاهرة، لم يأخذوا في الاعتبار أن عداوة رجال الدين لشبلي الشميل كانت دفاعاً عن نظام الاستثمار واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان باسم الدين.
وقد أعطى الشميل تعريفاً للحقيقة إذ قال: ليست الحقيقة في كثرة أنصارها بل الحقيقة قد تؤيدها الأقلية المتنوّرة المؤمنة بأن الحق هو الكاشف الفعلي للحقيقة. لذا يمكن أن نلخّص مبادئ شبلي الشميل بالآتي: لقد أعطى الشميل أهمية للثورات كمراحل ضرورية من أجل التغيير والتطور، مُصرّاً إصراراً شديداً على التفريق ما بين الثورات والانقلابات، فهو يقول في هذا الشأن: إن كل انقلاب يقتصر على استبدال الهيئة الحاكمة لن يفيد أهداف الثورة. أما في رأيي الشخصي، فإن أهمّ ما قاله الشميل هو اعتباره أن الاشتراكية حتمية من حتميات التاريخ ستوجد مهما طال الزمن.