لا نُفاجأ كثيراً عندما نسمع القصص التي تروى عن عنف أساتذة ومربّين ضد تلامذتهم، العنف المتنوّع يعتمد ركيزة لمعاقبة الطفل لنهيه عن «الشيطنة» أو التلهّي باللعب في الصف، ولكن هذا السلوك يخلق مواطناً يخنقه الخوف، والأهم من ذلك أنه ينمّي العداوة بين التلامذة، ويزيد من كره التلميذ لمدرسته ولما تقدّمه له من معارف. الأهم أنه رغم إنكار المعنيّين بالأمر، إلا أن الضرب والتعنيف المعنوي ما زالا متّبعين في عدد كبير من المدارس

حلا ماضي
ذات صباح، قررت سعاد والدة التلميذة زينب حجيج، ابنة السنوات التسع، التوجّه إلى مدرسة ابنتها لمناقشة حالتها مع المسؤولين، وذلك بعدما لاحظت الأم أن زينب تخترع العراقيل لعدم الذهاب إلى المدرسة، مطالبة والديها بنقلها إلى مدرسة أخرى، إضافة إلى كرهها الشديد لإحدى المواد الدراسية. وصلت سعاد إلى المدرسة، وطلبت رؤية ابنتها للاطمئنان إليها، فأجابتها الناظرة بأن زينب في دورة المياه، انتظرت الأم طويلاً... ولكن التلميذة لم تأتِ. توجّهت الأم إلى دورة المياه لتجد ابنتها واقفة في إحدى الزوايا مبلّلة وخائفة.
صُدمت الأم من رؤية ابنتها في تلك الحالة، وسألت المدرّسة عما يجري، فكان الجواب بأن ابنتها لا تركّز خلال شرح الدرس، تثرثر وتلعب مع زملائها، فما كان من المعلّمة إلا معاقبتها بتلك الطريقة حتى «تنتبه في المرة المقبلة».
العزل في دورة المياه عقاب زينب وزملائها «المشاغبين»، وقد تقدمت سعاد بدعوى بحقّ المعلمة وإدارة المدرسة، ولا تزال القضية عالقة بين الطرفين.
في مشهد آخر، يطلب الناظر في «مدرسة نصف مجانية» من هاني (12 عاماً) «الوقوف في الصف وعدم التكلم بصوت عالٍ في الملعب أثناء الفرصة»، وعندما امتنع هاني عن الامتثال لطلب الناظر، شرع الأخير بضرب التلميذ على رقبته ثم على وجهه، وسرعان ما تطوّر الموضوع إلى ركل بالأرجل، فما كان من التلميذ إلا أن هرب من ملعب المدرسة، بعدما احمرّ وجهه خجلاً وامتلأت عيناه بالدموع.
تضع المربّية سمر الإسماعيل هاتين «العقوبتين المدرسيّتين» في خانة العنف الجسدي المباشر ضد التلميذ «واللتين تؤدّيان بالتأكيد إلى حالات مرضية معقّدة». وتلفت إلى وجود أساليب أخرى غير مباشرة «لتأديب التلميذ» لا يقلّ تأثيرها السلبي عن العنف الجسدي، مثل توبيخ التلميذ وتوجيه الكلام القاسي له أمام زملائه، وطرده من الصف والطلب منه الوقوف على الحائط ورفع يديه إلى الأعلى، والطلب منه كتابة كلمة قد يكون أخطأ في كتابتها أثناء الإملاء مئة أو مئتي مرة، والمفاضلة بين التلامذة، وما إلى ذلك من أساليب «تنمّي العداوة والحس الأنانيّ بين التلامذة».
وتشير الاختصاصية والمعالجة النفسية الدكتورة مادلين بدرا إلى أن عزل الطفل أو التلميذ هو أيضاً نوع من أنواع العنف المعنوي، كما هي الحال عند التحدث مع التلميذ بصوت عالٍ ومواجهته بقساوة. وتشدد بدرا على الآثار النفسية والتربوية الناتجة من الأساليب العنيفة المتّبعة لـ«تأديب» التلميذ، لأن ذلك من شأنه «أن يخلق لديه خوفاً وقلقاً من كل شيء يحيط به، وهذا ما يعوق تركيزه ويشتّت أفكاره، إضافة إلى أن كل عنف جسدي أو معنوي يمنع الطفل من البحث عن حلول ويقلّص ثقته بنفسه، وقد يفقدها في أحيان كثيرة». وإذ ترى بدرا أن «عقوبة» عزل التلميذ عن محيطه بشكل خاص، تجعله عاجزاً عن مواجهة الآخرين أو الاختلاط معهم، فهي تفضل حرمانه من أمور يحبها لفترة صغيرة أو تنبيهه، وخلق حوافز إيجابية لديه وتشجيعه ومكافأته في حال امتناعه عن القيام ببعض التصرفات السيئة، واستبدالها بأخرى إيجابية .
وإذا كان التأديب وسيلة تربوية تهذيبية ترمي إلى تحسين سلوك الأطفال وإبعادهم عن الأخطاء، فإن التأديب كما تقول المشرفة التربوية في مدرسة ملكارت ماري سعادة «ليس عملاً انتقامياً من التلميذ أو الطفل عموماً، فمن الطبيعي أن يرتكب الأخير في سنواته الأولى بعض الأخطاء نتيجة لعدم وعيه وإدراكه للأمور من حوله، فيحتاج إلى إرشاد من الأهل والمعلم لتصحيح هذه الأخطاء وتقويمها، وما على المربي سوى أن يشرحها للتلميذ ويبين له سلبياتها بطريقة علمية وموضوعية حتى يقتنع الطفل».
وتروي سعادة أن مجموعة من التلاميذ قاموا بتحويل الأوراق الخاصة بالنشاط المدرسي داخل الصف إلى طائرات ورقية شاهدها المعلّمون والطلاب ترفرف من شرفات الصفوف! وتضيف «لقد أفسدوا حينها كل الأوراق التي كتبوا عليها، وقد ذهلنا كتربويين حينها، فاستدعيتهم إلى مكتبي وأبديت إعجابي بما فعلوه من «أشكال ورقية جميلة». ولكني أوضحت لهم بأن تلك الأوراق مخصصة للعمل وليست للعب».
وتشدد سعادة على ضرورة أن يكون «العقاب» بناءً، وأن يُفرض بأسلوب ليّن، يُقصد منه التعليم لا إعطاء الأوامر وتوبيخ الطفل واستخدام الألفاظ القاسية، مشددة على أن «ما يقوم به الطفل من أخطاء غالباً ما تكون تعبيراً عما في داخله» من قلق أو أسئلة يحتاج إلى إظهارها بطريقة ما.
سعادة، تكرر ما توصل إليه التربويون والباحثون، مستغربة اعتماد بعض المدارس على العنف «فهذا الأسلوب «المتخلّف» يُبعد المدرسة والمدرّسين عن الهدف الرئيسي وهو بناء جيل متوازن بعيد عن الاضطرابات والخوف».


«عقوبات» بديلة

لا ينفي التربويون ضرورة اللجوء إلى العقاب في بعض الأحيان، ولكنهم يدينون كلّيّاً استخدام العنف ضد التلامذة والأطفال عموماً. وتلفت سعادة إلى وسائل متعددة قد تساعد في توجيه الطفل ونهيه عن الأمور بتصرفات سيئة. تتحدث مثلاً عن عقاب يرتكز على منع التلميذ من القيام بأمور ونشاطات يحب ممارستها، ولكنها تشدد على أن الحرمان يجب ألا يطال أموراً أساسية بالنسبة إلى التلميذ، كمنعه من الحضور داخل الصف. وتفضّل سعادة في هذا الإطار وضع طاولة أمامية إلى جانب المعلمة يجلس عليها التلميذ أو إبقاءه بعض الوقت في أحد مكاتب الإدارة في المدرسة مع إحدى المربّيات، لا تركه وحيداً. أسلوب آخر تحبذ سعادة اتّباعه لتأديب الطفل، وهو التحدث إليه بطريقة جدية بعيداً عن استخدام القوة والصراخ لأن ذلك يعدّ نوعاً من العنف ضد الأطفال، وتشدد على ضرورة إيجاد البديل أو الحل للخطأ الذي يقوم به الطفل قبل الشروع بالعقاب