فاديا حطيطقرأت في هذه الصفحة بالذات من جريدة «الأخبار» مقالاً عن الأب. الموضوع هو تغيّر دور الأب من «ديكتاتور عادل» إلى صديق للطفل. يتخذ ذلك المقال وجهة إيجابية تجاه هذا التغيّر، ويمكن بسهولة أن نتوافق معه. غير أن مسارات التغيّر التي تأخذها الأدوار ليست دائماً منطلقة بهدوء النسيم، وليست عليلة مثله. بل إنها كثيراً ما تنطلق كالرياح العاصفة. وتغيّر دور الأب مثلما ألحظه ليس هادئاً، إنه تغير عاصف تماماً كتغير الدور الذكوري. وأنا أود التوقف في تلك الفسحة ما بين بدء ريح التغيّر واستقراره لأنقل شواهد عن ذلك العصف.
كنت قد درست مجموعة من قصص الأطفال الحديثة المكتوبة في لبنان في السنة الأخيرة، وهالني أن أجد أن لا ذكر لآباءٍ فيها. أسرٌ من دون آباء. إنها تحوي أطفالاً وأمهاتهم. أمٌ ذات مهنة مرموقة وابنها معجب بها. طفلة وأمها تتشاركان في حب أدوات التجميل. وأولاد، صبيان وبنات، يقومون بمغامرات وحيدين حتى لكأنهم استقلوا منذ أن ولدوا.
حين ألقيت تلك المحاضرة كان بعض المؤلفين/ النساء موجودين، وعبّروا عن انزعاجهم. كانت الصورة بالنسبة إليهم أكبر من أن تحتمل. هم يحبون آباءهم وأزواجهم ولا يريدون أن يكونوا في عداد مهشّمي صورتهم. حاولت أن أشرح أني أعتقد أن الكتابة ليست شأنا خاصاً أو فردياً، وأنها بشكل أو بآخر تحمل هموم لاوعي جماعي يتشارك فيه أبناء مجتمع واحد في زمن معيّن. وأنهم إن كتبوا ذلك، فليس لأنهم رغبوا فيه بل لأنهم يعيشونه. ولكني أحسست أنهم لم يقتنعوا، وعدم اقتناعهم ما زال يحرك فيّ التساؤل: هل نحن حين نكتب نصنع حدثاً أم ننقله فقط؟ ولكن هذا حديث آخر.
في لقاء ثان، كنت فيه في عداد الجمهور، قال المُحاضر في معرض حديثه عن دوره الذكوري الجديد، إنه سعيد جداً بتجربته كأب وهو يحاول أن يرافق ابنته الصغيرة في رغباتها إلى أقصى حد تريده. ولكنه يشعر بأن أمها، أي زوجته، تعترضه في سبيله هذا. تطلب منه أن يضع حداً بينما هو يريد أن يمحو الحدود. هو يريد أن يكون حراً ومستقلاً ويريد ابنته كذلك. وهو مؤمن بحق المرأة في المساواة والفرص المتكافئة ويريد أن تصبح ابنته حين تكبر سيدة مستقلة وحرة. ولكن كيف يقنع زوجته؟ وأعطى مثالاً عن مثل هذه المشكلات، فقال إن ابنته سألته إن كان بإمكانها تقبيل رفيقها في المدرسة وهو شجّعها على ذلك. ولكن ما الذي أقلق الأم؟ هل تخاف من كون ابنتها تعيش تجربة هي لم تعشها وبالتالي لا تعرف إلى أين يمكن أن تصل؟ هل تخاف أن يتحول الشأن الحميمي إلى شأن ذهني تتخذ بشأنه القرارات؟ هل تخاف من تبادل الأدوار بينها وبين زوجها، وكان الحري بالابنة أن تسأل الأم عن مثل تلك الأمور؟ كل ذلك جائز.
ما بين أب مغيّب، وأب شديد الحضور، تهبّ ريح التغيير. وإن أنت تأملت جيداً تجد أفكاراً ومواقف تتطاير وأخرى تتصارع وأخرى تسقط، وبين الحين والآخر يخرج من تلك العاصفة، شخص أنيق متزن ولطيف، يسير هادئاً وقد نفض عنه آثار الاضطراب. اليوم هؤلاء قلة، ولكنهم غداً كثر.