سلامة كيلة *بدت المعارضة في سوريا مربكة بعد الاعتقالات التي طالت قيادات «إعلان دمشق»، وزاد ارتباكها بعد المتغيرات التي حدثت في الشهرين الماضيين، حيث بدا أن السلطة كسبت في لبنان بعد تحقيق المعارضة اللبنانية شروطاً أساسية في اتفاق الدوحة، ثم الإعلان عن المفاوضات مع الدولة الصهيونية، وخصوصاً عبر دعوة ساركوزي والانفتاح الفرنسي، الذي فسّر، بالترابط مع الخطوتين السابقتي الذكر، على أنه بداية انفتاح أميركي. وزاد في الإرباك تحوّل الأزمة الاجتماعية إلى عنصر مقلق بعد الزيادات الكبيرة في أسعار السلع على أثر زيادة أسعار المشتقات النفطية، لتصبح هذه الأزمة هي التي تحظى باهتمام كتلة واسعة من المواطنين، وليبدو الوضع وكأنه على حافة انفجار اجتماعي حذّرت منه حتى قطاعات قريبة من السلطة.
ورغم أنّ الاعتقالات كانت مؤثرة في إثارة الإرباك، إلا أن المتغيرات السياسية والاجتماعية كانت أكثر تأثيراً، ولعلّها أوضحت الوهم الذي قامت عليه الاستراتيجية التي بني عليها «إعلان دمشق». وربما كان بناء تلك الاستراتيجية دون تلمس أزمة المعارضة «المزمنة»، وانطلاقاً من رؤية «غامضة» للواقع، هو الذي أوجد في العمق الإرباك، وسوف يبقي المعارضة في إرباك مستمر. ويمكن تحديد أزمة المعارضة في عدد من المسائل الجوهرية:
أولاً: كانت المعارضة تعيش تشوشاً فكرياً عميقاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حيث بدا أن كل ما كانت تقوله بات لا معنى له، أو كان خاطئاً، أو كان صيغة من صيغ الأوهام. وبدل أن تتريث، وتميل إلى التفكير العميق في أفكارها ورؤاها، سارعت قطاعات كبيرة منها إلى تبني «الموجة» التي أطلقتها القوى الليبرالية العالمية، والقائمة على حتمية اللبرلة والديموقراطية. وكان التشابه بين طبيعة النظام هنا وما كان سائداً في البلدان الاشتراكية (رغم الفروق الهائلة بينها، التي لم يكن الوعي السابق يسمح برؤيتها)، هو المدخل لتوهم أن بإمكاننا أن نحدث التحول الذي جرى في تلك البلدان، وعلى الأسس ذاتها. وهنا جرى الانتقال لدى قطاع كبير من ماركسية «متشدّدة» ونصّيّة إلى حدّ كبير، إلى ليبرالية أيضاً متشدّدة ونصية إلى حدّ كبير. فأصبح الهدف هو «الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية»، وتقلّص النضال إلى نضال «حقوقي» (رغم أهمية هذه المسألة). وأضع حقوقي بين مزدوجين، لأن ما كان يجري (وما زال) يسمى نضالاً سياسياً، لكنه في الواقع لا يعدو سعياً لتحقيق «تغيير ديموقراطي»، يعني تحويل السلطة إلى سلطة ديموقراطية في صيغة ما (لأن الديموقراطية هنا مشوشة، وتميل لأن تكون الحريات والانتخابات فقط). وأيضاً كان هذا النضال يوضع «في سياق عالمي».
ثانياً: كانت المعارضة قد أصبحت منحصرة في أطر ضيقة من الفئات الوسطى. طبعاً كان النظام الاستبدادي هو الذي أسهم في قطع العلاقة بين الأحزاب والطبقات الشعبية، لكن كان وضع الطبقات الشعبية الذي لا يميل إلى المعارضة نتيجة الوضع المعيشي الذي كان متحققاً له، سبباً آخر في هذه القطيعة، إضافة إلى إشكاليات الوعي والرؤية لدى الأحزاب المعارضة. وبالتالي كان وضع المعارضة ضعيفاً مقابل قوة السلطة التي كانت قد بدأت تتآكل. وبدا أن المعارضة مقطوعة الصلة بتلك الطبقات، لكن أيضاً بمعرفة محدودة بالتحولات التي جرت وأثرت على وضعها. لقد بدت المعارضة ككتلة محدودة منعزلة ومعزولة، وغير ذات معرفة في وضع الاقتصاد والمجتمع. معرفتها الوحيدة منحصرة في السلطة، وآليات استبدادها وممارساتها. في هذا الوضع، كيف يمكن أن نرسم استراتيجية ممكنة وحقيقية؟
لقد بدا طرح مسألة التغيير وكأنه «شطحة»، رغم أن هذا الشعار بالتحديد هو الذي ألهب حماسة قطاع كبير ممن شارك في «إعلان دمشق». لكن كان واضحاً أن ممكنات تحقيقه ذاتياً ليست متوافرة، رغم كل تلك الحماسة، وربما غطت الحماسة على الممكنات، وهذا ما فتح على مراهنات.
الآن، تسقط المراهنات ويبقى العجز. وبالتالي ما يمكن قوله هنا هو أن الانفعال طغى على الفعل، فضاع المنطق، وتهمشت المنطقية. وضاعت كل الملاحظات التي قِيلَت، بل جرى التشكيك بمقدّميها. وساد التصنيف «السخيف»: معارضة/ سلطة، وبالتالي وضع كل مختلف في صف السلطة. لهذا لم تناقش المسائل بعمق وجدية، وطغى الموقف العاطفي على العقل... لنصل إلى المأزق الراهن، ولتكون هناك ضرورة لإعادة صياغة الاستراتيجية. أولاً كتيارات، ثم كتحالف. حيث أن رؤى كل تيار تختلف عن رؤى التيارات الأخرى، لكنها تتقاطع معها في مسائل هي محل تكوين التحالف. هنا يُطرح السؤال: هل تكفي الديموقراطية كهدف، وخصوصاً أن معظم القوى محورت برنامجها عليه؟ ربما هذا ما يجمع مع المعارضة «البرجوازية» التي تريد فقط الديموقراطية لأنها مع كل السياسة الاقتصادية الساعية لتعميم اقتصاد السوق. ولكن أية ديموقراطية؟ التوافقية أم القائمة على مبدأ المواطنة والعلمنة؟ نعرف أن هذه المسألة كانت مجال نقاش جدّي، وخصوصاً منذ أن تكوّن «إعلان دمشق». ثم هل نتناول القضايا المطلبية التي باتت ملحة، وأصبحت عنصراً مفجراً في الوضع القائم؟ لكن ما علاقة الفقر والبطالة بالخصخصة واقتصاد السوق؟ أليست هذه نتاج تلك؟ إذاً، ألا يجب على اليسار أن يطرح هذه المسألة بكل الجدية الممكنة؟ أليست «الطبقات الشعبية» هي قاعدته التي عليه أن يعمل معها وبها، وبالتالي أن يكون المعنيّ إلى أبعد الحدود بوضعها ومشكلاتها وظروفها؟ وبالتالي أليست هذه الطبقات هي التي تحوّل هذا اليسار إلى قوة فعلية بدل أن يكون هامشاً ليس إلا؟ وما علاقة الاستبداد بالنهب والفقر؟ أليس هو الغطاء لتلك الممارسات التي أفضت إلى تقسيم طبقي، الهوّة فيه هائلة بين الأغنياء والفقراء؟
ثم، أليس واضحاً لقوى اليسار أن هناك خطراً إمبريالياً، لم يطل سوريا بعد، لكنه طال العراق، وهو يدعم كل الفعل الإجرامي الصهيوني، ويسعى لإعادة صياغة المنطقة وفق مصالحه وعلى أساس هيمنته، وفي أفق فرض وضع كارثي، يدمر ما بُني، وينهب النفط وكل الثروات.
إنّ المسألة الجوهرية هنا إذاً، هي أن تعيد قوى المعارضة بناء وضعها في أفق التغيير، ومن أجل أن تتحوّل إلى قوة فعل عبر الربط مع الطبقات الشعبية، ودفاعاً عن مصالحها، وفي إطار مشروع يطرح رؤية بديلة في مجالات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والدولة. قبل الفعل يجب التأمل، وخلال الفعل يجب التأمل، من أجل أن ينتصر الفعل. ونحن الآن في لحظة تأمل من أجل أن نبدأ من البداية... الصحيحة.
* كاتب عربي