تزحف ساعات الليل شيئاً فشيئاً، فتتقلص الزحمة اليومية على أوتوستراد الحازمية ــ الدورة. وحدهم سائقو شاحنات النقل العربية «الترانزيت»، قد تجدهم بشاحناتهم الضخمة على الطرقات، فيما قد يفترش بعضهم الآخر، للاستراحة أو بانتظار ساعات العمل، جوانب الأوتوستراد وزوايا خفية على جانبيه لا يعرفها غيرهم. من تلك الزوايا فسحة تسمى «جورة التسعة». هنا استراحة مع بعض من وجدناهم هناك
أحمد محسن
يمكن المتجول ليلاً على طريق الشام باتجاه شتورا، أن يتذكر ويتأكد من معلومة تتناقلها كتب المناهج الرسمية اللبنانية، عن أن لبنان بلد عبور وترانزيت تجاري، واعتبار هذه الفكرة، على الأقل، ناجية من «مغالطات كتاب التاريخ». هنا يسهل على الناظر رؤية أضواء شاحنات النقل ليلاً، ليس لأنها عملاقة في الحجم وحسب، بل لكثرتها على هذا الطريق المؤدي إلى سوريا، وخصوصاً تلك التي تصطف على جانبي الطريق، بين محلتي الدورة والسان تيريز، وكأن سائقيها ينتظرون شيئاً ما.
في الواقع، لا يترقب أغلب هؤلاء شيئاً يخرج عن روتينهم. فالانتظار ليس إلا لتحميل البضائع تمهيداً لانطلاق رحلتهم في الأوقات المسموح بتجوالهم فيها على الطرقات. فسير الشاحنات والآليات الكبيرة من مستديرة الصياد حتى ضهر البيدر بالاتجاهين، يُمنع يومياً من الساعة 6,30 ولغاية الساعة 8,30 صباحاً، ومن الساعة 14,30 ولغاية الساعة 16,00 عصراً. يستغل البعض منهم معرفته بالمنطقة، لأخذ قسطٍ من الراحة. ولهم محطاتهم المحببة فيها أيضاً. «جورة التسعة» كما يسّميها «أهلها» هي أبرزها. تقع الجورة قرب المرفأ، ويعرفها السائقون العرب كما قال لنا أحدهم «عن ظهر قلب»، على اختلاف جنسياتهم التي تتنوع بين لبنانية وسورية في الأغلب، وبعض الأردنين والعراقيين. الجورة ليست كما يوحي اسمها، حفرة في الأرض. هي بكل بساطة فسحة أرض بور «تحت الطريق»، نادراً ما تخلو من زوّار، تجدهم بالأغلب يجلسون هكذا يراقبون السيارات تجتاز الطريق بسرعةٍ بالغة.
وللناظر إلى صف الشاحنات «المركونة» أن ينقّل ناظريه بين لوحاتها الأشبه، من حيث الألوان والأسماء بفسيفساء من أرقام الشاحنات المتنوّعة بتنوّع العواصم العربية رغم أن المنطقة ليست مرفأً رسمياً. ينتمي السائقون إلى شاحناتهم أكثر من أي مكانٍ آخر، فينظّمونها ويزيّنونها «على مزاجهم». كل شيء في مكانه: العدة والطعام، وكله مكتوب بالخط العريض، إلا أن ما يلفت النظر، هو العبارات التي تزّين الشاحنات كـ«عين الحاسد تبلى بالعمى» و«لا تلحقني مخطوبة»!
لكن، يشكو أحد السائقين من «سوء معاملة الدرك لهم» قرب «الجورة» في الآونة الأخيرة، حيث يصرّ بعض العناصر كما قالوا لنا على تقاضي «أجرة» لقاء استخدامهم لها! ويردف الرجل الذي رفض البوح باسمه «لا يمكننا الاستغناء عنها، فنحن نأكل هناك». ويقول «ما إلْهُمْ حق بالمصاري بس نحنا منعطيهم»، مشيراً إلى أن الأمر لم يكن دائماً هكذا، ولكن أصبح كذلك في الفترة الأخيرة. والمقابل المالي ليس وحده ما يفسد فترة راحة السائقين، فبعضهم يشير «إلى وجود الجرذان»، مطالباً الدولة اللبنانية بالقضاء عليها!.
ومع أنهم عابرو سبيل، وربما بسبب ذلك «إلا أن لبنان لا يزال أفضل من الدوّل القريبة الأخرى»، يعترف سائق آخر. ويذهب الرجل الذي رفض بدوره البوح باسمه، أبعد من ذلك، شارحاً مدى معاناتهم من «عمليات التشليح» التي تحصل في وعلى الطريق إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي. يوضح السائق السوري الجنسية، أنه لا يجد اختلافاً يذكر «في طبيعة الشعبين السوري واللبناني»، لولا حدوث بعض «الزعرنات» في الفترة التي تلت اغتيال الرئيس الحريري. لكنه يعود ليؤكد انتهاء «مثل هذه الأمور» اليوم. فهو يرتاح في لبنان أكثر من غيره، بينما يتعرّض لـ«مضايقات جمة في دول أخرى كالسعودية والأردن»، تعامله على أساس «الاختلاف السياسي مع الدولة السورية» اليوم. «أما الشعب اللبناني، فهو طيبٌ جداً»، مستشهداً بأن بعض العمال اللبنانيّين يشاركونهم جلسات التسامر والشاي، والعشاء أحياناً، على عكس السائقين الآخرين من جنسيات أخرى، الذين «يفضّلون الجلوس وحدهم»، يقول بخجل. لا يفوت السائق السوري أن يذكر أن «جلسات التسامر والنقاش» تدور حول أمور العمل أو الدين وما شابه، لأن «السياسة بلا فائدة».
تغيب السياسة عن حياة سائقي الليل إذاً، وتوحّدهم مشقة العمل، فيصبحون تحت جناحه متشابهين في الشكل والمضمون. في العمل، بعضهم يتوقّف ساعتين وبعضهم قد تطول إقامته يومين، وفقاً لظروف شركات النقل التي يتشاركون سخطهم من تدنّي أجورها. أما من ناحية الشبه، فالليل يوحّدهم أكثر من النهار، ويمثّل فترة الراحة الحقيقية، بسبب انعدام حركة السير. مع انطلاق ساعات الفجر الأولى، يبدّلون ملابس العمل، ويرتدون «الدشداشة» استعداداً لتناول الشاي كالمعتاد، الذي يمكن اعتباره رفيقاً لا بديل لهم عنه في رحلاتهم. لكن حجم الألفة فيما بينهم يعوّض تعب النهار. يتشاركون كل شيء تقريباً، ابتداءً من أرغفة الخبز، مروراً بالسهرات الطويلة، وانتهاءً بضوء الشمس الذي يبزغ في الصباح، الذي لا يجدون منه مفراً، سوى النوم في خلفيات الشاحنات. ويقارن علي المصري، وهو الوحيد الذي ارتضى البوح باسمه، بين عدد الساعات التي قضاها نائماً في الشاحنة، وتلك التي قضاها في المنزل، مستنتجاً بأن أضلعه اعتادت «الحصيرة البسيطة» في الخلف، أكثر من سرير نومه. ربما ارتضى علي إشهار اسمه، لأنه في بيته اللبناني، كما أنه استغل الفرصة «الإعلامية» ليطلق موقفاً حاداً من انقطاع الكهرباء.